الدبلوماسية بين الناصر وملوك النصرانية. فقد تلقى الناصر كذلك في سنة ٣٤٤ هـ (٩٥٥ م) سفارة من أردونيو الرابع ملك ليون يرجو عقد السلام والمودة، فأجابه إلى طلبه؛ وأرسل في السنة التالية سفيره محمد بن الحسين إلى ليون، فعقد مع أردونيو معاهدة صادق عليها، ولكن حال دون تنفيذها منافسة سانشو لأخيه أردونيو. وفي سنة ٣٤٧ هـ (٩٥٨ م) وفدت طوطة ملكة نافار بنفسها إلى قرطبة، ومعها ولدها غرسية وسانشو أمير ليون، وطائفة من الأحبار والعظماء النصارى، فاستقبلهم الناصر في قصره بالزهراء استقبالا حافلا، وعقد السلم مع طوطة، وأقر ولدها ملكاً على نافار، ووعد سانشو بالعون على استرداد عرشه. ثم وفدت على الناصر رسل البابا يوحنا الثاني عشر في طلب السلم والمودة، بين الإسلام والنصرانية فأجابهم إلى ما طلبوا (١) , وكانت سفارة ذات مغزى واضح في الاعتراف بزعامة الناصر للعالم الإسلامي. وفي أخبار هذه السفارات المتبادلة بين زعيم الإسلام وملوك النصرانية، وفي تفاصيلها الشائقة، ما يلقى كبير ضوء على طبيعة التقاليد والرسوم الدبلوماسية في العصور الوسطى.
- ٥ -
وفي أوائل سنة ٣٤٩ هـ مرض الناصر من برد شديد أصابه، واحتجب حيناً، وأكب الأطباء على معالجته حتى تحسنت حالته نوعاً، وعاد إلى الجلوس في القصر، ولكنه أصيب بنكسة، وعاد إلى احتجابه، ولبث أشهراً تشتد به العلة حيناً، وتخف حيناً، حتى وافاه القدر المحتوم، في الثاني من شهر رمضان سنة ٣٥٠ هـ (١٥ أكتوبر سنة ٩٦١ م). وكانت وفاته بقصر الزهراء في الحادية والسبعين من عمره، واستطال حكمه زهاء خمسين عاماً، وهي أطول مدة حكمها خليفة من خلفاء الإسلام، إذا استثنينا عهد المستنصر بالله الفاطمي بمصر.
وكان عبد الرحمن الناصر أعظم أمراء الإسلام في عصره، بل ربما كان أعظم أمراء عصره قاطبة. ولم تصل الدولة الإسلامية في الغرب، إلى ما وصلت إليه في عصر الناصر، من القوة والسؤدد والهيبة والنفوذ. وكان يتمتع بخلال باهرة قلما تجتمع في شخصية واحدة، سياسية وعسكرية وإدارية. وكان يشبه في