للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يتحدثون بشأنه حيناً؛ فكانت هذه العناية تقع من قلب صبح أحسن موقع، وتزيدها عطفاً على ابن أبي عامر وشغفاً به. وكان الحكم يشهد هذا السحر الذي ينفثه ابن أبي عامر إلى حظيته، وإلى نساء القصر جميعاً، ويعجب له. ويروى أنه قال يوماً لبعض ثقاته: " ما الذي استلطف به هذا الفتى حرمنا حتى ملك قلوبهن، مع اجتماع زخرف الدنيا عندهن، حتى صرن لا يصفن إلا هداياه، ولا يرضين الا ما أتاه، إنه لساحر عظيم أو خادم لبيب، وإني خائف على ما بيده " (١).

ولم تلبث علائق صبح وابن أبي عامر أن ذاعت، وغدت حديث أهل قرطبة، ولم يك ثمة ريب في أنها استحالت غير بعيد إلى علائق غرامية. وربما ارتاب الحكم في طبيعة هذه العلائق، وثاب له رأي في نكبة ابن أبي عامر، وسعى لديه بعض خصومه، واتهمه بأنه يبدد الأموال العامة، التي عين للنظر عليها، في شراء التحف والإنفاق على أصدقائه، فأمره الحكم أن يقدم حساب الخزانة العامة، ليتحقق من سلامتها، وقد كان بالخزانة في الواقع عجز كبير، فهرع ابن أبي عامر إلى صديقه الوزير ابن حُدير، وكان وافر الوجاهة والثراء، فأغاثه وأعانه بماله على تدارك هذا العجز، وتقدم إلى الحكم سليم العهدة برىء الذمة، فزالت شكوكه، وتوطدت ثقته فيه.

واستمر ابن أبي عامر متمتعاً بنفوذه وسلطانه، يندبه الحكم لعظائم المهام والشئون، وكان آخرها ما عهد إليه من تنظيم البيعة بولاية العهد لولده هشام حسبما تقدم؛ وابن أبي عامر خلال ذلك كله، يحرص على عطف صبح، ويستزيده ويصانع الحاجب جعفر، ويجتهد في إرضائه وكسب ثقته، وكان بين الرجلين تباين يفيد منه ابن أبي عامر، فقد كان الحاجب جعفر على ما يبديه من التواضع والبشر والترفق بالناس، قليل الجود، مؤثراً لجمع المال. وكان ابن أبي عامر على نقيضه في ذلك، فكان واسع البذل والجود، حريصاً على اصطناع الرجال، وكانت داره الفخمة بضاحية الرصافة، مقصد الناس من كل صوب، وكانت مائدته معدة دائماً، وكان بذلك كله يخلق جواً من الحب والإعجاب، ويجتذب الصحب والأنصار، بسحر خلاله, ووافر بذله ومروءته، وبارع وسائله وأساليبه (٢).


(١) البيان المغرب ج ٢ ص ٢٦٨.
(٢) الذخيرة - القسم الرابع المجلد الأول ص ٤٢. والبيان المغرب ج ٢ ص ٢٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>