للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بأسه، ويرتاب في نياته وأطماعه. ومن ذلك اليوم يضطرم بين الرجلين صراع عنيف صامت لم يك ثمة شك في نتيجته. وكان ابن أبي عامر هو الأقوى بلا ريب، سواء بمواهبه وقوة نفسه، أو بمؤازرة صبح له. ولم تكن هذه المؤازرة ترجع فقط إلى ذلك الحب القديم، الذي تضطرم به جوانح صبح نحو ذلك الرجل القوي، ولكنها كانت أيضاً ترجع إلى ثقة صبح في مقدرته وبراعته، وفي أنه هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يحمي ملك ولدها الفتى، وأن يوطد الأمن والسلام في المملكة. كان ابن أبي عامر في الواقع هو السيد المطلق، وكانت صبح تفوض إليه كل سلطة وكل أمر، فكان يدير الشئون كلها بمهارة، تثير إعجاب خصومه وأصدقائه على السواء.

وكان الخليفة الفتى هشام المؤيد بالله، ميالا بطبيعته وسنه إلى اللهو والدعة، ولم يكن له شىء من تلك الخلال الرفيعة، التي تهيء الأمراء للاضطلاع بمهام الملك، فكان يلزم القصر والحدائق، ويقضي كل أوقاته في اللهو واللعب، بين الخصيان وآلات الطرب؛ وكان ابن أبي عامر وصبح يشجعان هذه الميول السيئة في نفس الأمير، ويريانها ملائمة لمقاصدهما (١). ومذ ولي هشام، حجر عليه ابن أبي عامر، ولم يسمح لأحد غيره برؤيته أو مخاطبته، وكان يحمل صبحاً بدهائه وقوة عزمه، على أن تختلق الأعذار لحجب ولدها، حتى غدا هشام شبه معتقل أو سجين. وفي ذلك يقول لنا مؤرخ أندلسي: " حجر المنصور ابن أبي عامر على هشام المؤيد، بحيث لم يره أحد مذ ولي الحجابة، وربما أركبه بعض سنين، وجعل عليه برنساً فلا يعرف، وإذا سافر وكل من يفعل به ذلك " (٢).

ويقدم إلينا ابن الخطيب تلك الصورة عن الخليفة هشام: " ولما كان هشام مندرجاً في طي كافله الحاجب المنصور، بحيث لا ينسب إليه تدبير، ولا يرجع إليه من الأمور قليل ولا كثير، إذ كان في نفسه وأصل تركيبه مضعفاً مهيناً مشغولا بالنزهات، ولعب الصبيان والبنات، وفي الكبر بمجالسة النساء ومحادثة الإماء، يحرص بزعمه على اكتساب البرْكات والآلات المنسوبات " (٣). وفي الفرص النادرة، التي كان يسمح فيها للأمير بالخروج، كان ابن أبي عامر يتخذ أشد


(١) Dozy: Hist. Vol. II. p. ٢٢٧.
(٢) راجع نفح الطيب ج ١ ص ٢٧٦.
(٣) أعمال الأعلام ص ٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>