التحوطات، فيحيط موكب الأمير حين يخترق شوارع قرطبة، بصفوف كثيفة من الجند، تمنع الشعب من رؤيته أو الاقتراب منه. وكان حجب هشام على هذا النحو، عماد ذلك الانقلاب العظيم الذي اعتزم ابن أبي عامر، أن يحدثه في نظم الدولة، لتمكين سلطانه وجمع سلطات الخلافة كلها في يده.
وكان لابد لتحقيق هذه الغاية الكبرى، أن يسحق ابن أبي عامر كل سلطة
أخرى تعترض سبيله. وكان الصقالبة وعددهم نحو ألف، لا يزالون قوة يحسب حسابها، وكذا كان الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، ما يزال بحكم منصبه وتأييد عصبته، مسيطراً على السلطة العليا. وكانت الوحشة ما تزال قائمة بين الحاجب وبين الصقالبة، مذ تسبب في فشل مشروعهم لتولية المغيرة بن عبد الرحمن، وحصد شوكتهم بتولية هشام. وكان الحاجب يخشى غدرهم ودسائسهم. وبلغه أن فريقاً من زعمائهم، وعلى رأسهم الفتيان جؤذر وفائق، يدبرون مؤامرة لقب نظام الحكم، فاتخذ بعض التحوطات، ووضع الفتيان تحت الرقابة، وأغلق باب الحديد، الذي كان مخصصاً بدخولهم ودخول أصحابهم إلى القصر، وقصر دخولهم مع بقية الناس على باب السُّدة، وفصل الغلمان من أصحاب جؤذر وفائق، وتفاهم مع ابن أبي عامر على إلحاقهم بحاشيته، وكانوا زهاء خمسمائة، فقبل ابن أبي عامر خدمتهم وفخم بهم شأنه، ثم انحاز إليه بنو برزال، وكانوا قبلا من أصحاب الحاجب جعفر، فقوى بهم أمره، ولم يمض سوى قليل حتى استقال زعيم الصقالبة الفتى جؤذر، وشعر الصقالبة بأن نجمهم قد أفل، وسلطانهم قد انهار، فسرى بينهم التذمر، واجتمع المتمردون حول فتى من زعمائهم يدعى درّي. فتفاهم الحاجب وابن أبي عامر على إزالته، فدعي إلى بيت الوزارة لسؤاله عن أمور نسبت إليه وإلى عماله من رعيته في بياسة؛ ولما قدم دري ورأى كثرة الجند، شعر بالشر، وأراد العودة فمنعه ابن أبي عامر، فهجم عليه وأراد أن يبطش به، فصاح ابن أبي عامر بالجند، فهرع إليه بنو برزال وانهالوا عليه ضرباً، ثم حمل إلى داره وقتل في نفس المساء. ورأى ابن أبى عامر الفرصة سانحة لسحق الصقالبة، فأمر كبيرهم فائقاً وباقي زعمائهم بالتزام دورهم، وفرق بذلك شملهم. ثم جد في مطاردتهم واستصفاء أموالهم، وفشى فيهم القتل والنفي، حتى هلك الكثير منهم، وأبعد الفتى فائق في النهاية إلى