للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عارض فيه، وأعرب عن خوفه من أن يحرك ذلك ساكن الأحوال، وأن المنصور ليس في حاجة إلى مثله، وبيده سائر الأمور؛ وتردد رأي الفقهاء بين الاعتراض والموافقة (١).

على أنه يبدو من جهة أخرى، من تريث المنصور وتمهله في اتخاذ الخطوات المذكورة، أنه كان يخشى نتائج العنف والتسرع. فما الذي كان يخشاه المنصور إذاً، وقد اجتمعت في يده كل السلطات، وأضحى يسيطر على سائر القوى؟ لقد كان نهوض المنصور وتقدمه في سبيل السلطان، مقترناً بظروف لا تساعد على اكتساب محبة الشعب وتأييده الخالص. فقد وقع عن طريق اتصاله بصبح، بالمرأة التي كانت تسيطر على الدولة، والتي كانت علائقه بها تثير كثيراً من الهمس والتعليق اللاذع، وقد وقع على حساب الخليفة الطفل هشام المؤيد، الذي استلب ابن أبي عامر سلطانه وحقوقه تباعاً، ثم حجر عليه بطريقة قاسية تشبه الموت المدني، وقطع علائقه مع العالم، ولم يكن يسمح له بمقابلة أحد، أو بالخروج من القصر؛ وفي الفرص النادرة التي كان يسمح بخروجه فيها، كان يسير في موكبه وعليه برنس يخفي شخصه، ومن حوله صفوف كثيفة من الجند، فلا يستطيع أحد أن يراه أو يقترب منه (٢). وكان الشعب القرطبي يشهد أطوار هذه المأساة المؤلمة واجماً ناقماً، ويعتبر الخليفة الشرعي ضحية وشهيداً، يستحق كل عطفه ورثائه. ولم يكف كل ما حققه المنصور من مظاهر السلطان والمجد، وما أحرزه من الظفر المتوالي، وما أسبغه حكمه على الأندلس من أسباب السكينة والعزة ْوالأمن والرخاء، لم يكف ذلك كله لحمل الشعب على نسيان قضية خليفته الشرعي.

أضف إلى ذلك كله، تلك الوسائل الدموية المثيرة، التي لجأ إليها ابن أبي عامر للتخلص من خصومه ومنافسيه، فقد كانت تباعد بينه وبين الشعب؛ ولم يكن الشعب، إزاء هذه الظروف والعوامل كلها، ليمنح ابن أبي عامر حبه وولاءه، وإن كان من جهة أخرى يخشاه ويرهبه، بل ويعجب بحزمه وعزمه وعبقريته في تسيير الأمور، وفي تأمين البلاد، وإذلال العدو.

ومن ثم كان تريث ابن أبي عامر وتحوطه. فإنه لم يكن واثقاً من إغضاء


(١) راجع نقط العروس لابن حزم ص ٧٧.
(٢) البيان المغرب ج ٣ ص ٤١، ونفح الطيب ج ١ ص ٢٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>