وتنهك بذلك قوى الجيوش الإسلامية ومواردها بصورة مستمرة، وذلك دون أن تحقق غاية ثابتة مستقرة، أو توفق إلى القضاء على القوى الخصيمة بصورة حاسمة.
ولقد اجتمعت لاسبانيا المسلمة في عصر المنصور أعظم القوى والموارد العسكرية التي اجتمعت لها في أي عصر سابق أو لاحق، وكانت هذه القوى الزاخرة، التي كان رائدها المنصور، - وهو أعظم شخصية سياسية وعسكرية، أتيح لها أن تقود الأندلس، وأن تسهر على مصايرها - كانت هذه القوى كفيلة بسحق الممالك الإسبانية النصرانية لو أنها وجهت نحو هذه الغاية توجهاً صائباً. ويقدر النقد الإسباني الحديث نفسه هذه الحقيقة، فيقول لنا إن غزوات المنصور ودفعه حدود النصارى إلى ما وراء نهر دويرة، وافتتاحه لقلمرية وسمورة وليون وشنت ياقب وكويانسا وشنت منكش وأوسمة وبرشلونة، دفع اسبانيا النصرانية إلى حافة الخراب تقريباً، وقضى هذا البعث لقوة الإسلام على كل أمل في " الإسترداد " La Reconquista (١) .
ولكن غزوات المنصور على كثرتها، وعلى ما أسبغ عليها من طابع النصر المستمر، لم تخرج كثيراً عن حيز الصوائف والغزوات الإسلامية العارضة، التي تحقق أية غاية مستقرة ثابتة.
وأما عن مقدرة المنصور في الإدارة والحكم، فإن الكلام فيها حرى بأن يطول، فقد أبدى المنصور طوال حياته كفاية إدارية مدهشة، وظهر في سائر المناصب التي أسندت إليه، مذ تولى وكالة هشام ولي العهد، فأمانة دار السكة والخزانة، ثم خطة المواريث، فخطة القضاء، ثم الشرطة، فالإشراف على الحشم والخاص؛ ظهر فيها جميعاً ببراعته وحصافته، وحسن تصريفه؛ ثم ظهرت هذه المقدرة على أتمها مذ ولي الحجابة، واستأثر بسائر السلطات، واحتمل فوق كاهله سائر المسئوليات الكبرى. فقد غدا المنصور زعيم الأندلس، وحاكمها الأوحد، والمشرف على مصايرها في الحرب والسلم؛ وقد أبدى المنصور في اضطلاعه بتلك المهمة العظمى، مقدرة فائقة، لم يبدها أحد من أسلافه. فلم تر الأندلس من قبل استقراراً كالذي رأته في عهد المنصور، ولم تتمتع قط بمثل ما تمتعت به في عهد المنصور، من الأمن والطمأنينة والدعة. وكانت أيام المنصور بالأندلس كلها
(١) Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana ; p. ٦٢٩.