للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خطه بيده، يقرأ فيه ويتبرك به في كل مناسبة (١).

وكذلك تنوه الرواية بعدالة المنصور، وصرامته في إحقاق الحق، والانتصاف لذوي المظالم. وقد أورد لنا صاحب البيان المغرب عدة أمثلة رفعت فيها الظلامات إلى المنصور ضد بعض أكابر خدمه وحاشيته، ممن كانوا يظنون أن مراكزهم تحميهم من إجراء العدالة، فأمر المنصور بالانتصاف منهم لذوي الظلامات. وكان يقترن بهذه الصفة، خلة محمودة أخرى، هي تذرعه بالحلم والصبر، وضبط النفس في أموركثيرة، وذلك بالرغم مما كان عليه من الهيبة والرهبة والسلطان (٢)، ولكن الرواية تنعي على المنصور خلة سيئة، هي شغفه بمعاقرة الخمر، وقد لازمته هذه الرذيلة طوال حياته، ولم يقلع عنها إلا قبل وفاته بعامين. ويصف لنا ابن الخطيب كيف كان المنصور يصل في العمل يومه بليله، وهو عاكف على الشراب، في تلك الفقرة البليغة: " وكانت الجزالة والرجولة ثوبه الذي لم يخلعه، إلى أن وصل إلى ربه، والحزم والحذر شعاره الذي لم يفارقه طول حياته، والنصب والسهر شأنه في يومه وليله، لا يفضل لذة على تدبيره، وحلاوة نهيه وأمره، فينفذ الأمور، والكأس تدور، والجبال للطرب تمور " (٣).

* * *

بقيت من خلال المنصور ناحية ربما كانت ألمع خلاله جميعاً، وتلك هي الناحية العلمية.

نشأ المنصور حسبما رأينا في بيت علم وأدب، ودرس وفقاً لتقاليد أسرته دراسة حسنة، وبرع في الشريعة والأدب، وكان حرياً به أن يتبوأ مكانه بين علماء عصره، لولا أن شاءت الأقدار أن تدفع به إلى معترك السياسة والسلطان.

على أن المنصور لبث بالرغم من مشاغل هذا المعترك السياسي الخضم، يحتفظ طول حياته بشغفه بالعلم والأدب، ويوثق صلاته بالعلماء والأدباء والشعراء ويؤثرهم بحبه وعطفه، ويجمعهم حوله في أوقات فراغه وسويعات لهوه وأنسه، ويساجلهم البحث والمناظرة، ويطارحهم قرض الشعر، ذلك لأن المنصور كان شاعراً أيضاً، وله نظم حسن سوف نورد شيئاً منه.


(١) البيان المغرب ج ٢ ص ٣٠٩ و٣١٠، وابن خلدون ج ٤ ص ١٤٧.
(٢) البيان المغرب ج ٢ ص ٣١٠ - ٣١٢، والحلة السيراء ص ١٥١.
(٣) البيان المغرب ج ٢ ص ٣١٠، وأعمال الأعلام ص ٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>