للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان للمنصور، فضلا عن مجالس الأدب والأنس العابرة، مجلس أسبوعي يعقده للبحث والمناظرة، ويشهده كثير من العلماء والأدباء (١). وكان في غزواته يستصحب بعض العلماء والأدباء من أصدقائه، إذ كان شغف البحث والمناظرة، يلازمه دائماً حتى في ميدان الحرب؛ وإلى جانب هذا الشغف الشخصي بالحياة العقلية، كان المنصور مولعاً بالعمل على نشر العلم والمعرفة بين طبقات الشعب، فأنشأ كثيراً من دور العلم بقرطبة، وبالغ في الإنفاق عليها، وكان يزور المدارس والمساجد، ويجالس الطلاب أحياناً، ويمنح المكافآت النفيسة لمن يستحقها.

وإلى جانب هذا الشغف بالآداب والعلوم ونشر الحياة العقلية، كان المنصور يشغف أيضاً بجمع الكتب، وكان أكابر المؤلفين يهدون إليه كتبهم، على نحو ما كان متبعاً أيام الحكم، ومن ذلك أن صاعداً البغدادي أهدى إليه كتاب " الفصوص " المتقدم ذكره، فأثابه عنه بخمسمائة دينار (٢).

وكان المنصور يمقت الفلسفة وما إليها، ويرى أنها مخالفة للدين، ويكره التنجيم والمنجمين، وقد أمر بأن يستخرج من المكتبة الأموية العظيمة (مكتبة الحكم المستنصر) سائر كتب الفلاسفة والدهريين، وأن تحرق بمحضر من كبار العلماء، وفي مقدمتهم أبو العباس بن ذكوان، وأبو بكر الزبيدي، والأصيلي وغيرهم، وكان ذلك بلا ريب عملا غير موفق، وكان خسارة علمية فادحة.

وينعى المستشرق سيمونيت على المنصور هذا التصرف، فيقول: " إنه إذا كان الحكم الثاني قد استطاع لنزعته العلمية والأدبية أن يحمي الفلاسفة، فقد جاء المنصور من بعده فقام بحرق كتب الفلسفة التي كانت بمكتبة الحكم، وذلك لكي يرضى الفقهاء والدهماء " (٣). واشتد المنصور أيضاً في مطاردة المنجمين، وبلغه أن أحدهم وهو محمد بن أبي جمعة، يهجس في تنبؤاته بانقراض دولته، فأمر بقطع لسانه وقتله، فخرست ألسن المنجمين جميعاً (٤).


(١) راجع جذوة المقتبس للحميدي ص ٧٣، والمعجب ص ٢٠.
(٢) الصلة لابن بشكوال رقم ٤٠.
(٣) Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana ; p. ٣٥١
(٤) البيان المغرب ج ٣ ص ٣١٥، وأعمال الأعلام ص ٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>