للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكتب في الحال إلى سائر نواحي الأندلس والعدوة، بوجوب إذاعة المرسوم، والدعاء لولى العهد على المنابر بعد الخليفة.

وفي اليوم التالي جلس عبد الرحمن بقصر الزاهرة في هيئة الملك، واصطف من حوله رجال الدولة وفق مراتبهم، وأقبل وجوه قرطبة لتهنئته، وفي مقدمتهم طائفة من المروانية المبعدين عن الخلافة، وغيرهم من بطون قريش. يقول المؤرخ: " وخرجوا من عنده، وقلوبهم ذؤوبة عليه، موقدة ببغضه ". وبادر الشعراء وفي مقدمتهم أبو العلاء صاعد البغدادي، برفع قصائد التهاني. وقد أورد لنا ابن حيان طرفاً مما قاله الشعراء في ذلك (١).

بيد أن شاعراً آخر، هو ابن أبي يزيد المصري، نظم في ذم ابن ذكوان وابن برد وهما المسؤولان عن تحرير مرسوم البيعة هذين البيتين:

إن ابن ذكوان وابن برد ... قد ناقضا الدين عين عهد

وعاندا الحق إذ أقاما ... حفيد شنجُه ولي عهد (٢)

وذهب عبد الرحمن في غروره واختياله إلى أبعد مدى، فعين ابنه الطفل عبد العزيز في خطة الحجابة، وأسبغ عليه لقب سيف الدولة، وهو لقب عمه المظفر. واعتقد عبد الرحمن أنه حقق بذلك مشروعه العظيم، في تخليد ملك الدولة العامرية، وأن الأمور قد دانت كلها له، فأطلق العنان لأهوائه، وانكب على لهوه وشرابه، يحيط به نفر من البطانة السيئة، والندماء الأسافل، يصورون له الأحوال في أبدع الصور وأحبها إلى نفسه.

وكان من الحوادث البارزة في تلك الآونة، حادث ظاهر البساطة في ذاته، ولكنه أذكى موجة جديدة من السخط. وذلك أن عبد الرحمن أصدر أمره إلى رجال الدولة وأكابر أهل الخدمة، بأن يتركوا قلانسهم الطويلة، المبرقشة الملونة، التي كانوا يضعونها على رؤوسهم، ويمتازون بها على باقي الطوائف، وأن يستبدلوها فوراً بالعمائم. وقد كانت العمائم هي غطاء الرأس عند البربر. فأنف الكبراء لذلك، ولكنهم رضخوا للأمر كارهين، وحضروا إلى قصر الزاهرة بالعمائم لأول مرة في يوم ١٤ جمادى الأولى، وعلق جمهور الشعب على ذلك بمختلف الأقوال والتأويلات.


(١) راجع البيان المغرب ج ٣ ص ٤٦ و٤٧؛ وأعمال الأعلام ص ٩٤ - ٩٦.
(٢) ابن الأبار في الحلة السيراء ص ١٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>