للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان عبد الرحمن أثناء ذلك قد فكر في أن يشغل الناس بحديث الغزو أسوة بأبيه وأخيه، وكان سانشو غرسية أمير قشتالة من جهة أخرى قد أبدى أنه لا يزمع احترام السلم المعقود، وأخذ بالفعل يغير على الحدود الإسلامية. ولم تكن أخبار قرطبة، وما يسودها من اضطراب الأحوال، خافية على الملوك النصارى.

واعتزم عبد الرحمن أن يسير إلى الغزو، وأن يقصد إلى جلِّيقية، فاعترضه كبير الفتيان الصقالبة، وحذره من مغادرة قرطبة في هذا الوقت، وأوضح له أن المروانية (بني أمية) يأتمرون به، ويدبرون انقلاباً ينتزعون به الحكم، وأن كثيراً من الجند يميلون إليهم، فلم يصغ إلى قوله، وأمر بالخروج إلى الغزو (١)، وعهد بإدارة الحكومة في غيبته إلى ابن عم أبيه عبد الله بن أبي عامر المعروف بعسكلاجة.

وكان خروجه من قرطبة في ١٦ جمادى الأولى سنة ٣٩٩ هـ (يناير سنة ١٠٠٩ م) أعني في أعماق الشتاء، وسار بالجيش صوب طليطلة في طريقه إلى جليقية والأمطار تنهمر والبرد يهرأ الأجسام، وهو على سجيته من اللهو والشراب. ثم اخترق حدود مملكة ليون، ودخل جليقية. ولكن ملك ليون ألفونسو الخامس تحصن بقواته في رؤوس الجبال، ولم يتقدم لقتال المسلمين، ولم يجد عبد الرحمن سبيلا لقتاله لفيضان الأنهار وكثرة الثلوج، فقرر العودة بجيشه، فارتد راجعاً أدراجه. وبالرغم من أنه لم يحقق في غزوته هذه أية نتائج ذات شأن، فقد نظم ابن دراج القسطلي، على سجيته، في تلك الغزوة قصيدة طويلة، يشيد فيها بعبد الرحمن، وهذا مطلعها:

هو البدر في فلك المجد دارا ... فما غسق الخطب إلا أنارا

تجلى لنا فأرتنا السعود ... غيوب المنى في سناه جهارا

وأوفى فكادت صوادي القلوب ... تفوت العيون إليه بدارا

وحل فحلت جسام الفتو ... ح تبأى اختيالا وتزهى افتخارا (٢)

وما كاد عبد الرحمن يصل إلى طليطلة، حتى وافته الأنباء بأن انقلاباً حدث في قرطبة، وأن الثوار قد استولوا على مدينة الزاهرة، ونهبوا ذخائرها، وأضرموا النار في صروحها. وتسربت الأنباء إلى الجند، فوقع الاضطراب في الجيش،


(١) أعمال الأعلام ص ٩٦.
(٢) وردت هذه القصيدة كاملة في ديوان ابن دراج (ص ٤٥٩ - ٤٦٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>