لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة المؤرخ إلى نصف نهار يوم الأربعاء تتمة الشهر، وفي مثل ساعته فتح مدينة قرطبة، وهدم مدينة الزاهرة، وخلع خليفة قديم الولاية وهو هشام بن الحكم، ونصب خليفة جديد لم يتقدم له عهد، ولا وقع عليه اختيار، وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وزوال دولة آل عامر، وكرور دولة بني أمية، وإقامة جنود من العامة المحشودة عورض بها أجناد السلطان أهل الدربة والتجربة، ونكوب وزراء جلة، ونصب ضدادهم، تقتحمهم العين هجنة وقماءة. وجرى هذا كله على يدي بضعة عشر رجلا من أراذل العامة، حجامين وخرازين، وكنافين، وزبالين، تجاسروا عليه، وقد تكفل المقدور بوقوعه، فتم منه ما لم يكن في حسبان مخلوق تمامه" (١).
* * *
وهكذا انهارت الدولة العامرية بسرعة مدهشة لم يكن يتوقعها أحد؛ فقد تولى عبد الرحمن المنصور الحكم عقب وفاة أخيه عبد الملك في ١٧ صفر سنة ٣٩٩ هـ والدولة محكمة النظام موطدة الدعائم، والجيش على ولائه للدولة العامرية، فلم تمض سوى ثلاثة أشهر حتى انهار ذلك الصرح الشامخ، الذي شاده المنصور ابن أبي عامر، والذي لبث خمسة وثلاثين عاماً معقد النظام والسلامة والأمن والرخاء للأندلس، واستطاعت جموع يسيرة من الدهماء، أن تحقق بسرعة البرق ما لم يجرؤ على تصوره أو محاولته من قبل، أحد من أكابر خصوم الدولة العامرية والمتربصين بها. ومن الواضح أن الأسباب الجوهرية لمثل هذا الانقلاب الصاعق، ترجع قبل كل شىء إلى العوامل الأدبية والنفسية، فقد كان نظام الطغيان المطبق الذي فرضه المنصور على الأمة الأندلسية، بالرغم من كل ما حققه للأندلس من السؤدد والرخاء، يبدو كالكابوس المرهق، وكان الشعب يتوق إلى التخلص من هذا النير، الذي سلبه كل مظاهر الحرية. فلما تولى عبد الرحمن المنصور، كانت النفوس قد أشبعت ببغض هذا النظام والرغبة في زواله، وكان سلوك عبد الرحمن وتصرفاته ومجونه واستهتاره، عاملا جديداً في إذكاء هذا البغض وهذه الرغبة.
وكان لاجترائه على اغتصاب ولاية العهد، أسوأ وقع في نفوس قوم جبلوا على تقديس شعائر الخلافة وحقوقها الشرعية. فلما خرج عبد الرحمن إلى الغزو، كان