للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكلام، ولم يفرق في ذلك بين أصاغرهم وزعمائهم، حتى أن كبيرهم زعيم قبيلة صنهاجة، زاوي بن زيري بن مناد، عند مقدمه إلى القصر، مع جماعة من رجاله، ردوا عند الباب بفظاظة، وأهينوا، فانصرفوا وقلوبهم تضطرم سخطاً.

وسرت إلى العامة عندئذ، موجة من التحامل ضد البربر، فهاجمت بعض جموعهم دور البربر في ضاحية الرُّصافة، ونهبوا بعضها، وبادر صاحب المدينة بضبط الحال ورد الغوغاء، وقتل ثلاثة منهم. وأسرع زاوي بن زيري، وحبوس بن ماكسن، وأبو الفتوح بن ناصر، وغيرهم من زعماء البربر بالدخول على محمد بن هشام، وأخبروه بما وقع, فاعتذر لهم، ووعدهم برد ما نهب، وقتل عدد من الغوغاء، ولكن البربر لم تهدأ ثائرتهم، وبقيت نفوسهم على اضطرامها.

وكان من أعمال العنف التي قام بها محمد بن هشام، أن نفى عدداً من الفتيان الصقالبة العامريين. فغادروا قرطبة، ولجأوا إلى أطراف الأندلس الشرقية، وكان من تملكهم لبعض نواحيها ومدنها ما سنذكر في موضعه. ولم يقبل منهم على مسالمة محمد بن هشام ومصادقته، سوى الفتى واضح صاحب مدينة سالم والثغر الأوسط، فإنه بعث إليه كتاباً يؤكد فيه طاعته، ويبدي ابتهاجه بمصرع عبد الرحمن المنصور، فرد عليه المهدي بالشكر، وبعث إليه أموالا ومتاعاً، ومرسوماً بولاية الثغر كله.

وعمد محمد بن هشام بعد ذلك إلى مطاردة الخليفة هشام المؤيد، فحبسه في القصر أولا، وأخرج جواريه وفتيانه، ودوابه المحبوبة، ثم أخرجه بعد ذلك من القصر، وأخفاه في بعض منازل قرطبة. وتوفي في ذلك الوقت رجل نصراني أو يهودي، قيل إنه كان يشبه هشاماً شبهاً قوياً، فأعلن محمد بن هشام، وفاة الخليفة، وأحضر الوزراء والفقهاء فشهدوا بأنه هو الخليفة هشام المؤيد حقاً.

ودفن هذا الخليفة المزعوم في اليوم السابع والعشرين من شعبان سنة ٣٩٩ هـ (١).

ولما شعر محمد بن هشام أن الأمر قد استتب له، أطلق العنان لأهوائه، وشهواته الوضيعة، وانكب على معاقرة الخمر، وبالغ في الاستهتار والمجون، والمجاهرة بالفسق والفجور، بصورة مثيرة أفقدته عطف الكثيرين واحترامهم،


(١) البيان المغرب ج ٣ ص ٧٧؛ وابن الأثير ج ٨ ص ٢٥٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>