للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

برع ابن مسرة في العلوم الدينية، ولكنه جاهر ببعض الآراء المغرقة، في التأويل والقدر وغيرها، فاتهم بالزندقة وغادر الأندلس. فاراً إلى المشرق وذلك في سنة ٢٩٨ هـ، ودرس هنالك على أيدي المعتزلة، والكلاميين وأهل الجدل. ثم عاد إلى الأندلس وهو يخفي نحلته وآراءه الحقيقية، تحت ستار من النسك والزهد. وكان يتخذ لنفسه غاراً يتعبد فيه على مقربة من جبل قرطبة، حتى سمي بالجبلي.

واختلف إليه الطلاب من كل صوب. وكان يستهويهم بغزير علمه وجزالة بيانه، حتى ذاعت شهرته، وتبعه الكثيرون من الصحب والتلاميذ. وقد اختلف في أمر ابن مسرة، فبعضهم يسمو به إلى مرتبة الإمامة في العلم والزهد والورع، ومنهم من كان يرميه بالزندقة وترويج البدع. وتوفي ابن مسرة بقرطبة سنة ٣١٩ هـ (٩٣١ م) (١). على أن تعاليم ابن مسرة لبثت بعد ذلك حية ذائعة، طوال عهد الناصر، وقام جمهرة من أهل السنة، بمعارضة تعاليمه وإنكارها، ووصل صوتهم في ذلك إلى الخلافة، واضطر الناصر إلى أن يصدر باسمه بياناً في سنة ٣٤٠ هـ، يستنكر فيه تعاليم ابن مسرة وتلاميذه، ويرميهم بالمروق، والخروج عن تعاليم السنة الحقيقية، وقد أورد لنا ابن حيان هذا البيان الفريد في المقتبس (٢)، وقد تحدثنا فيما تقدم عن ابن مسرة وحركته، ولخصنا كتاب الناصر في شأنها.

وفي عصر الناصر بالذات ظهر شاعر من أعظم شعراء الأندلس، هو أبو القاسم محمد بن هانىء الأزدي الإشبيلي، وقد ولد بإشبيلية في سنة ٣٢٦ هـ، وظهر منذ حداثته ببراعة شعره وروعة افتنانه، ولكنه اتهم بالكفر والزندقة.

فغادر الأندلس، ولحق بالبلاط الفاطمي بالمهدية، والخليفة المعز لدين الله يتأهب عندئذ لفتح مصر، فأغدق عليه المعز عطفه ورعايته. ولما سار المعز إلى مصر، سار ابن هانىء للحاق به، ولكنه توفي في طريقه في سنة ٣٦٢ هـ. وقد ُشُبه ابن هانىء بالمتنبي في رصانة شعره، وروعة افتنائه، ومن أشهر قصائده قصيدته التي يصف فيها جيش المعز الذاهب إلى فتح مصر، بقيادة جوهر الصقلي، والتي يقول فيها:


(١) ابن الفرضي رقم ٦٥٢.
(٢) وذلك في النسخة الخطية من السفر الخامس من المقتبس المحفوظة بخزانة القصر الملكي بالرباط بالمغرب وقد نقلناه منه، ونشرناه في آخر الكتاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>