للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيما بعد، في بعض الولايات الإيطالية أيام عصر الإحياء مثل حكومة "الكوموني" في جنوة، وحكومة "السنيوريا" في فلورنس أيام حكم آل مديتشى. وقد كان هذا النظام في الواقع أقرب النظم إلى حكومة الجماعة، فقد كان آل مديتشي، يحكمون وفق إرادتهم حكماً مطلقاً، ولكن يحتجبون في نفس الوقت وراء هيئة منتخبة من النبلاء أو الزعماء الذين يعملون بوحيهم تسمى Balie أو Signoria أي جماعة الحكام أو السادة. ولسنا نود أن نقول إن هذه الحكومات الإيطالية، كانت مأخوذة أو مقتبسة من حكومة الجماعة القرطبية، فليس ثمة دليل على ذلك، ولكنا نود أن نقول إنها قامت في طروف مشابهة، ولمثل البواعث التي أوحت بقيامها في قرطبة.

وسلك جهور في حكومته مسلك الأصالة والحزم، وكان أول همه أن يقمع الشغب، وأن يوطد دعائم النظام والأمن، فصانع زعماء البربر واستمالهم بالرفق وخفض الجناح، اتقاء لدسائسهم وتهدئة لثورات أطماعهم، فحصل على محبتهم وسلمهم، وجعل أهل الأسواق جنداً، وفرق السلاح فيهم، وفي البيوت، حتى إذا دهم أمر في الليل أو النهار، استطاع أهل المدينة الدفاع عن أنفسهم، وأصلح القضاء، وعمل على ضبط العدالة بين الناس، وقضى على كل مظاهر البذخ والإسراف، وخفف أعباء المكوس، وعمل على حفظ الأموال العامة، ولاسيما الأموال السلطانية، حيث عهد بتحصيلها وحفظها، إلى رجال ثقاة يشرف عليهم بنفسه، وعمل على تشجيع المعاملات والتجارة، ومن ذلك أن فرق الأموال على التجار لتكون بيدهم ديناً عليهم، يستغلونها ويحصلون على ربحها فقط، وتحفظ لديهم، ويحاسبون عليها من وقت إلى آخر. وكان من نتائج هذه الإجراءات، أن حل الرخاء مكان الكساد، وازدهرت الأسواق وتحسنت الأسعار وغلت الدور، ونمت الموارد. ويبدي ابن حيان، وقد كان من شهود هذا التحول، دهشته من تحقق الأمن والنظام والرخاء على هذا النحو في قوله: "فعجب ذو التحصيل للذي أرى الله في صلاح الناس من القوة، ولما تعتدل حال، أو يهلك عدو، أو تقو جباية، وأمر الله تعالى بين الكاف والنون ". ومع ذلك فإن ابن حيان يلاحظ أن جهوراً لم يفته خلال ذلك كله أن يستغل الظروف، وأن يعمل على جمع المال "حتى تضاعف ثراؤه وصار لا تقع العين على أغنى منه"، وإن كان

<<  <  ج: ص:  >  >>