للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانت خطة ابن عكاشة قد كللت بالنجاح، فبسط حكمه على المدينة، وانضم إليه كثيرون من الدهماء، ودعا الناس إلى بيعة المأمون بن ذى النون وطاعته، وبعث إليه برأس سراج الدولة. وكان المأمون يقيم يومئذ في بلنسية، فقدم على عجل، ودخل قرطبة في موكب عظيم، وذلك في أواخر جمادى الآخرة سنة ٤٦٧ هـ (١٠٧٥ م). ولكنه لم يلبث طويلا حتى مرض وتوفي بعد ذلك بأشهر قلائل، في أواخر ذي القعدة من نفس العام. واحتمل جثمانه إلى طليطلة ودفن بها. ويقال إنه توفي مسموماً. وتولى ابن عكاشة من بعده حكم قرطبة، نائباً عن يحيى القادر بن ذى النون حفيد المأمون وخلفه في حكم طليطلة. وكانت وفاة المأمون إيذاناً بتطور الحوادث. ذلك أن المعتمد بن عباد، مذ قتل ولده وضاعت قرطبة، كان يضطرم رغبة في استرداد المدينة والانتقام لولده، وكان جماعة من أهل قرطبة قد بعثوا إليه يدعونه للقدوم، فما كاد المأمون يختفي من الميدان، حتى زحف على قرطبة في قواته، وأدرك ابن عكاشة أن لا طاقة له بالمقاومة، ففر من المدينة، ودخلها جند ابن عباد على الأثر، وبعث المعتمد في أثر ابن عكاشة سرية من الفرسان طاردته حتى ظفرت به وقتلته، وجىء به فصلب مع كلب إمعاناً في الزراية به، وفر ولده حريز بن عكاشة إلى طليطلة، فولاه يحيى بن ذى النون حاكماً لقلعة رباح (١)، وكان حريز هذا شاعراً مطبوعاً ذكره الفتح في " مطمح الأنفس " (٢).

وكان المأمون بن ذى النون من أعظم ملوك الطوائف، وأطولهم عهداً، إذ حكم ثلاثة وثلاثين عاماً، وامتدت رقعة مملكة طليطلة في عهده حتى وصلت شرقاً إلى بلنسية، وازدهرت وعمها الرخاء. وجمع المأمون ثروات طائلة، وابتنى بعاصمته قصوراً باذخة اشتهرت في ذلك العصر بروعتها وفخامتها. وكان منها مجلسه الشهير المسمى " المكرم " كان آية في الروعة والبهاء. وقد نقل إلينا ابن حيان عن ابن جابر، وقد كان من شهوده في حفلة من حفلات المأمون الباذخة، بعض أوصافه. قال: " وكنت ممن أذهلته فتنة ذلك المجلس، وأغرب ما قيد لحظي


(١) أعمال الأعلام ص ١٥٨ و ١٥٩، وابن خلدون ج ٤ ص ١٦١، وراجع دوزي: Hist.Abbadidarum V.II.p. ١٢٢-١٢٦
(٢) ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص ١٩٦. والقاهرة ج ٢ ص ١٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>