للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثلاً عند تفسيره لأول سورة "ق" نراه يعرض لمعنى هذا الحرف فى أول السورة "ق" ويقول: ".. وقد روى عن بعض السَلَف أنهم قالوا: "ق" جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف، وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بنى إسرائيل التى أخذها عنهم مما لا يُصدَّق ولا يُكَذَّب، وعندى أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يُلَبِّسون به على الناس أمر دينهم، كما افترى فى هذه الأُمَّة مع جلالة قدر علمائها وحُفَّاظها وأئمتها أحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قِدَم، فكيف بأُمَّه بنى إسرائيل مع طول المدى وقِلَّة الحُفَّاظ النُقَّاد فيهم، وشربهم الخمور وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته؟ وإنما أباح الشارع الرواية عنهم فى قوله: "وحدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج" فيما قد يُجَوِّزه العقل، فأما فيما تحيله العقول، ويُحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل. والله أعلم".

كما نلاحظ على ابن كثير أنه يدخل فى المناقشات الفقهية، ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم عندما يشرح آية من آيات الأحكام، وإن شئتَ أن ترى مثالاً لذلك فارجع إليه عند تفسير قوله تعالى فى الآية [١٨٥] من سورة البقرة: { ... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .. الآية، فإنه ذكر أربع مسائل تتعلق بهذه الآية، وذكر أقوال العلّماء فيها، وأدلتهم على ما ذهبوا إليه، وارجع إليه عند تفسير قوله تعالى فى الآية [٢٣٠] من سورة البقرة أيضاً: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} .. الآية، فإنه قد تعرَّض لما يُشترط فى نكاح الزوج المحلِّل، وذكر أقوال العلماء وأدلَّتهم.

وهكذا يدخل ابن كثير فى خلافات الفقهاء، ويخوض فى مذاهبهم وأدلَّتهم كلما تكلَّم عن آية لها تعلق بالأحكام، ولكنه مع هذا مقتصد مُقِلٌ لا يُسرف كما أسرف غيره من فقهاء المفسِّرين.

وبالجملة.. فإن هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور، وقد شهد له بعض العلماء فقال السيوطى فى ذيل "تذكرة الحفَّاظ" والزرقانى فى "شرح المواهب": إنه لم يُؤَلَّف على نمطه مثله.

* * *

<<  <  ج: ص:  >  >>