ونحن لا ننكر على ابن عربى أن ثَمَّ أفهاماً يُلقيها الله فى قلوب أصفيائه وأحبابه، ويخصُهم بها دون غيرهم، على تفاوت بينهم فى ذلك بمقدار ما بينهم من تفاوت فى درجات السلوك ومراتب الوصول، كما لا نُنكر عليه أن تكون هذه الأفهام تفسيراً للقرآن وبياناً لمراد الله من كلامه، ولكن بشرط أن تكون هذه الأفهام يمكن أن تدخل تحت مدلول اللَّفظ العربى القرآنى، وأن يكون لها شاهد يؤيدها، أما أن تكون هذه الأفهام خارجة عن مدلول اللَّفظ القرآنى، وليس لها من الشرع ما يؤيدها فذلك ما لا يمكن أن نقبله على أنه تفسير للآية وبيان لمراد الله تعالى، لأن القرآن عربى قبل كل شىء كما قلنا، والله سبحانه وتعالى يقول فى شأنه:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[فصلت: ٣] . وحاشا لله أن يُلغز فى آياته، أو يُعمى على عباده طريق النظر فى كتابه، وهو يقول:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} . [القمر: ١٧] .
هذا هو ما أدين الله عليه بالنسبة لكلام الصوفية، وعذرى فى ذلك أنى لم أسلك مسلك القوم، ولم أذق ذوقهم، ولم أعرف اصطلاحاتهم التى يصطلحون عليها، ولعلِّى إذا سلكت هذا الطريق، وانكشف لى من أستار الغيب ما انكشف لهم، أو على الأقل فهمت لغة القوم ووقفت على مصطلحاتهم. لعلِّى إذا حصل لى شئ من هذا تبدَّل رأيى وتغير حكمى، فسلَّمت لهم كل ما يقولون به، مهما كان بعيداً وغريباً. وقد سأل رجل بعض العلماء أن يقرأ عليه تائية ابن الفارض فقال له:"دع هذا، مَن جاع جوع القوم وسهر سهرهم رأى ما رأوا".
يقولون: إنهم يدركون بعض المعانى بعين اليقين، وما مَن شأنه أن يُدرَك بعين اليقين لا يمكن أن يُدرَك بعلم اليقين، إذن فلا بد لمن يريد أن يحكم على القوم حكماً صحيحاً أن يجتهد فى الوصول إلى ما وصلوا إليه بالعيان، دون أن يطلبه عن طريق البيان، فإنه طور وراء طور العقل، والشاعر يقول:
علم التصوف علم ليس يعرفه ... إلا أخو فطنة بالحق معروف
وليس يعرفه مَن ليس يشهده ... وكيف يشهد ضوء الشمس مكفوف
ويقول ابن خلدون:"وليس البرهان والدليل بنافع فى هذه الطريق رداً وقبولاً، إذ هى من قبيل الوجدانيات".
ويقول الألوسى فى مقدمة تفسيره (الجزء الأول ص ٨) : "فالإنصاف كل الإنصاف