فعمر رضى الله عنه أدرك المعنى الإشارى: وهو نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرَّه النبى على فهمه هذا.. وأما باقى الصحابة، فقد فرحوا بنزول الآية، لأنهم لم يفهموا أكثر من المعنى الظاهر لها.
هذه الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن.. ظهر يفهمه كل مَن يعرف اللِّسان العربى.. وبطن يفهمه أصحاب الموهبة وأرباب البصائر. غير أن المعانى الباطنية للقرآن لا تقف عند الحد الذى تصل إليه مداركنا القاصرة، بل هى أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور. ولقد فهم ابن مسعود أن فى فهم معانى القرآن مجالاً رحباً ومتسعاً بالغاً فقال:"مَن أراد علم الأوَّلين والآخرين فليُثَوِّر القرآن" وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ}[الأنعام: ٣٨] ، وقال:{مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولاكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} . [يوسف: ١١١] .
* *
[التفاوت فى إدراك المعانى الباطنة وإصابتها]
غير أن هذه المعانى المتكاثرة التى يشتمل عليها باطن القرآن لم تكن فى متناول المفسِّرين جميعاً، كما أنهم لم يكونوا متساوين فى القدر الذى أدركوه منها، بل تفاوتوا فى ذلك بمقدار ما بينهم من تفاوت فى الأخذ بالأسباب، كما أنهم لم يكونوا جميعاً مصيبين فيما وصلوا إليه منها وأدركوه، بل أصابوا فى بعض منها وأخطأوا في بعض آخر، وما أخطأوا فيه: بعضه عن جهل، وبعضه عن تعمد خبيث ونية سيئة، فالإمامية مع قولهم بالظاهر على ما به، قالوا بالباطن أيضاً، ولكنهم تعمدوا أن يُفسِّروا الباطن على ما يتفق وعقيدتهم الفاسدة.. والباطنية لم يعترفوا بظاهر القرآن واعترفوا بالباطن فقط ولكنهم أيضاً تعمدوا أن يُفسِّروا الباطن على ما يتفق ونواياهم السيئة، وكلا الفريقين ضال مبتدع.
أما الصوفية.. أهل الحقيقة وأصحاب الإشارة، فقد اعترفوا بظاهر القرآن ولم يجحدوه، كما اعترفوا بباطنه، ولكنهم حين فسَّروا المعانى الباطنة خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فبينما تجد لهم أفهاماً مقبولة سائغة، تجد لهم بجوارها أفهاماً لا يمكن أن يقبلها العقل أو يرضى بها الشرع، ولهذا أرى أن أستعرض بعض ما للقوم من أفهام فى التفسير، ثم أحكم عليها حكماً مجرداً عن كل شئ إلا عن الحق والإنصاف، ثم بعد هذا أذكر شروط التفسير الإشارى، وهى الشروط التى إذا توافرت فيه جاز لنا قبوله والأخذ به، وإلا أسقطناه ورفضناه مهما كان لقائله من المكانة فى نفوسنا أو فى نفوس القوم.
* *
[التفسير الإشارى فى الميزان]
قلنا: إن القرآن له ظهر وبطن، وذكرنا لك أهم الأقوال فى معنى الظاهر والباطن،