{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ} ... إلى آخر القصة، نجده يقول:"وذهب بعض المفسِّرين مذهباً آخر فى فهم معنى الملائكة، وهو أن مجموع ما ورد فى الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخِلْقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أن هذا النمو فى النبات لم يكن إلا بروح خاص، نفخه الله فى البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال فى الحيوان والإنسان، فكل أمر كلى قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية فى إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهى سُمِّى فى لسان الشرع مَلَكاً، ومَن لم يبال فى التسمية بالتوقيف يسم هذه المعانى القوى الطبيعية، إذا كان لا يعرف من عالَم الإمكان إلا ما هو طبيعة، أو قوة يظهر أثرها فى الطبيعة. والأمر الثابت الذى لا نزاع فيه، هو أن فى باطن الخِلْقة أمراً هو مناطها، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن العاقل أن ينكره، إن أنكر غير المؤمن بالوحى تسميته مَلَكاً، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحى تسميته قوة طبيعية أو ناموساً طبيعياً، لأن هذه الأسماء لم ترد فى الشرع، فالحقيقة واحدة، والعاقل مَن لا تحجبه الأسماء عن المسميات، وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجوداً لا يدرك كنهه، والذى لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح، ولكن أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، ولا يعلم إلا الله علام يختلف الناس، وكلٌ يقر بوجود شىء غير ما يرى ويحس، ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه؟ وماذا على هذا الذى يزعم أنه لا يؤمن بالغيب - وقد اعترف بما غيب عنه - لو قال: أُصدِّق بغيب أعرف أثره، وإن كنت لا أُقدِّر قدره، فيتفق مع المؤمنين بالغيب، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحى، ويحظى بما يحظى به المؤمنون؟
"يشعر كل مَن فَكَّر فى نفسه، ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن فى نفسه تنازعاً كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى. فهذا يُورد وذاك يدفع، واحد يقول افعل، وآخر يقول لا تفعل، وآخر يقول لا تفعل، حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشىء الذى أُودع فى أنفسنا ونسميه قوة وفكراً، وهى فى الحقيقة معنى لا يدرك كنهه، وروح لا تُكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميه الله ملَكَاً، أو يسمى أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حَجْرَ فيها على الناس، فكيف يُحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ والعلم الواسع".
ثم قال الأستاذ الإمام بعد ذلك: "فإذا صح الجرى على هذا التفسير، فلا