والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبى يتألَّف قوماً ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خُلِّفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين فى عشائرهم فكانت المصلحة الدينية فى تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان فى هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع فى العدو القتال تارة والمهادنه تارة وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح. وجواب الأئمة كأحمد وغيره فى هذا الباب مَبْنيٌّ على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التى كثرت فيها البدع كما كثُر القدر فى البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، ؛ وإذا عُرف مقصود الشريعة سلك فى حصوله أوصل الطرق إليه. وإذا عُرِفَ هذا، فالهِجْرَة الشرعية هي من الأعمال التى أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لابد أن تكون خالصه لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صواباً؛ فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غيرَ مأمور به كان خارجاً عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانَّةً أنها تفعله طاعةً لله. =