الثالث: أنّ الفَرق بين تكليف الحيِّ العافل، الواقعِةُ أكسابُه باختيارِه بحسبِ إِرادته دائرةً معها وجودًا وعدمًا، وبين تكليف جمادٍ لا يَتَّصف بشيءٍ من ذلك أصلًا، حاصلٌ بالضرورة، ظاهرٌ ظهورًا لا يَتردَّد فيه عاقلٌ؛ لأنّ الأوّل يَصِحّ منه كسبُ المأمورات والمنهيّات والتلذّذُ بها، سواءٌ كانت تلك الأكسابُ خلقًا له، أو لم تكن. والحجر الأصمّ لا يصحّ منه ذلك، ولا يجد له لذّةً بالضرورة. لا يَلزَم من صحّة تكليفِ الأوّل تكليفُ الثاني؛ لأنّ الأوّل أكمل؛ ولو لم يكن إِلاّ بالصورة. ولا يلزم من تكليف الأكمل تكليفُ ما هو دونه.
الوجه الثالث: قال: "لو كان الله سبحانه هـ الخالق لأفعال العباد، للزم فيه محذوراتٌ.
"منها سدُّ باب الاستدلال على وجود الصانع. وذلك لأنّه لا طريق إِلى إِثبات الصانع إِلاّ القياس؛ لأن يُقال:"العالَم محدَثٌ؛ فيحتاج إِلى المحدِث"، قياسًا على أفعالنا المحتاجَة إِلينا. فمَن مَنَع حُكمَ الأصلِ في هذا القياس، وحَكَمَ بأنّ العباد غيرُ موجِدين لأفعالهم، لم يمكنه الاستدلالُ به على وجود الصانع.
والجواب: لا نُسلم أنّ هذا المحذور لازمٌ للقول بأنّ الله خالقُ أفعال العباد. قوله:"لا طريق إِلى إِثبات الصانع إِلاّ القياس المذكور". قلنا: لا نُسَلِّم حصرَ طريقِ ذلك في هذا القياس؛ بل ولا أنّ العالَم محدَثٌ؛ لأنّه مؤلَّفٌ؛ وكلّ مؤلَّفٍ محدَثٌ؛ وكل محدَثٍ، فالعقلِ لذاته يَدلّ على أنّ له محدِثًا. فذلك المحدِث، إِن كان محدَثًا أيضًا، لَزم الدورُ والتسلسلُ الباطلان. وإِن كان قديمًا، فهو المطلوب. ولا واسطة بين المحدَث والقديم.
قوله:"مَن مَنَع حُكمَ الأصلِ في القياس المذكور، انسدَّ عليه بابُ إِثباتِ الصانع".
قلنا:"مَن مَنع حُكمَ الأصلِ"؛ بمعنى أنّ لا كسبَ للعبدِ، أو بمعنى أنّ لا إِيجاد للعبد؟ الأوّل مُسلَّمٌ؛ لأنّ الأصل حينئذٍ يخلو عن العلّة في الحقيقة والصورة. والثاني ممنوعٌ؛ لأنّا، وإِن نَفَينا إِيجادَ العبد لأفعاله، لكنّا أَثبتنا كسبَه لها، بمعنى صدورها عن قدرة الله سبحانه خلقًا على أدوات العبد، دائرةً مع إِرادته كسبًا. وحينئذٍ، يمكننا أن نجعل الجامعَ