للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الكلام على قاعدته في الصيام]

قلتُ: الكلام على ما قرَّره أوّلَ قولِه، "لا يجوز أن يكلّفنا الشرعُ بفعلٍ لا مصلحة فيه". إِن أرادَ: "لا يجوز عقلًا"، فهذا تقبيحٌ عقليُّ، وقولٌ بلزومِ رعاية المصالح لله تعالى؛ وقد أبطلناه. وإِن أراد: "لا يجوز شرعًا"، فمن أين استفاده مِن الشرع؟

ولو لَزِمَ أنّ الشرعَ لا يكلِّفنا إِلاّ بما فيه مصلحةٌ، لكن تلك المصلحة يلزَم أن تكون بيِّنةً ظاهرةً لنا، أم لا؟ فإِن لَزِم ذلك، بَطَلَت فائدةُ التعبُّداتِ في الشرع؛ إِذ فائدتها امتحانُ المكلَّفين بالانقياد لفعلِ ما لا يعلمون حكمتَه، تحصيلًا لمعنى الإِيمان بالغيبِ ونحوِه. ومتى ظَهَرَ وجهُ المصلحة في الفعل للمكلَّف، زال ذلك المعنى، ولم يَبق عنده فرقُ بين إقامة العبادة، وبين سفره في تجاراته ومعايشه؛ لاشتراك الأمرين في المصلحة الظاهرة له. وإِن لم يَلزم كونُ المصلحة ظاهرةً للمكلَّفين، فمِن أين لك أنّ مصلحةَ الضوم ما ذَكَرتَ؟ فإِن قلتَ: "بالاستدلال"، قلنا: وخصمُك يُبيِّن غيرَ المصلحة التي ادّعيتها بالاستدلال؛ فما المرجِّح لدعواك؟ فإِن قال: "صحّة استدلالي، دون استدلالِ خصمي"، قلنا: هو دعوى؛ فهاتوا برهانَكم إِن كنتم صادقين.

قوله، "ومصلحة الصوم ما اشتَمَل عليه من صيانة النفس المفضي إِلى بقائها، لاستدامة التوحيد، لدفعِ العقاب عن المكلِّف".

قلنا: أمّا أوّلًا، فهذا إِشارةٌ إِلى ما سَبَقَ من لزوم رعايةِ المصلحة، وتعليل أحكام الله. إِذ عَلَّلتَ إِيجابَ التوحيدِ بدفعِ العقاب. وهما أصلان منازَعٌ فيهما.

وأمّا ثانيًا، فإِنّه لو كانت مصلحة الصوم وحكمتُه صيانةَ النفسِ، كما ذكرتَ، لكان يجب صيامُ الدهر، أو أكثرِه؛ لأنّ الإِنسان، لغلبة شهواته وملازمتها لذاته على الدوام، يَحتاج إِلى ما يصونه عنها على الدوام؛ لأنّ دوام المقتضِى يقتضي دوامَ الحُكمِ. ولم يوجِب الشرعُ عليهم إِلاّ شهرًا في السنة؛ فما عسى أن يُحَلِّل صيامُ ذلك الشهر من صيانة النفس في باقي العام؟ بل نحن نشاهد الناسَ في رمضان يُصَيِّرون ليلَهم نهارَهم. ثمّ يفعلون فيه من قضاء الشهوات أكثرَ مِمَّا يقضونه في نهارٍ غيره؛ لأنهم، لتوقُّعِ المنعِ منها بمجيء النهار، يَعُدُّون الليلَ فرصةً ينتهزونها، وخُلسةً يغتنمونها، خصوصًا

<<  <   >  >>