للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيما شاهدناه بمدينة القاهرة. وما مَثَلُ مَن جَعَلَ صومَ شهرٍ مِن سنةٍ صائنًا للنفوس عن الشهوات، إِلاّ مَثَلُ من أراد إشباعَ الأسد بِبقّة، أو إِرواءَ الجملِ بمَذقةٍ. ونحن نشاهد أنّ كثيرًا من المنقطعين للرياضة يصوم الدهرَ، ويواصل في بعضه، ثمّ تكون غايتُه أن يَعجَز عن ضبط نفسه؛ فتجمح به، فتَصرعُه صرعاتٍ أقبح من صرعات العوامّ الذين لا رياضة لهم، بل لا يصومون رمضان أصلَا. والحكمة تقتضي أن يكون الفِعلُ صالحًا لِما قَصَدتَه من الحكمة والمصلحة. وإِلاّ، كان كمن ادَّعى أنّ الله سبحانه خَلَق الثعالبَ والضباعَ لإِهلاك النمورِ والسباعِ، وخَلَق الحمامَ في الدُورِ لحراسة الطيور من العُقبانِ والصقورِ، وخلَق الذُبّانَ لإِهلاكِ كلِّ حيّةٍ وثعبانٍ! وذلك مِمَّا تجب صيانةُ العامّةِ، فضلًا عن الحكماء، عنه.

وأمّا ثالثًا، فما ذكرتَه معارضٌ بأنّ مصلحةَ الصوم حصولُ الثواب في الآخرة، أو تصفيةُ النفس لإِدراك المعارف؟ فإِنّ للجوع أثرًا في الفهم والإِدراك. ولهذا قيل: البِطنة تُذِبُ الفِطنةَ؛ والجوع يورِث العلمَ الدقيقَ، أو إِذاقةَ الإِنسان ألمَ الجوعِ، ليَسمح للمساكين، ولا يبخل.

ومِثل هذا، حُكي أنّ معلِّمًا لأنوشِروان ضَربه ذات يومٍ ضربًا وجيعًا بغير ذنبٍ؛ وذلك عندما بَرَع فيما أراد من العلم، وأراد الخروج من عند المعلِّم. فحقد عليه أنوشروان. فلمّا وليَ الملكَ، أحضر المعلِّمَ، فقال: "لمِ ضربتني ذلك اليوم، ولم يكن لي ذنبٌ؟ " فقال له: "ظننتُ أنّك ستَلي الأمرَ بعد أبيك، لما رأيتُ من نجابتك. فأرَدت أن أُذيقَك مرارة الظلم، لئلاّ تظلم أحدًا". فقال أنوشروان: "تحسينًا لِما قصدَه المعلِّمُ.

وقد ذُكِر للصوم فوائدُ غير هذه. فجاز أن تكون مصلحةُ الصوم جميعَ تلك الفوائد.

وجاز أن يكون بعضها غير التي عَنيتَها أنت من الصيانة. وجاز أن يكون ما عنيتَه. فما ذكرتَه إِنما يصحُّ على تقديرٍ من ثلاث تقادير. وهو مرجوحٌ مغلوبٌ؛ فلا يُعوَّل عليه. لأنّ المرجوح في الشرعيّات كالمعدوم.

أمّا قوله، "لا يجوز أن تكون مصلحةُ الصوم حصولَ الثواب، بل دفع العقاب"، ففيه نظرٌ؛ لوجهين:

أحدهما أنّ النصوص تُقارِب التواترَ في الوعد بالثواب على الصيام؛ وهي أكثرُ من

<<  <   >  >>