فإن قيل:"لا نُسلَّم أنّ ما ذكرتموه، مِن خلقِ الداعي ونحوه، هو خلقُ المعصيةِ؛ بل خلقُها هو قوله، "كُنْ"، فيكون، كما يكون غيرُها مِن الأعيان والأفعال". قلنا: هو يُكَون المعاصي كذلك، لكن مرتَّبةً بحكم عادته في خلقِه، على الأسباب المذكورةٍ. فإِن نازعتم في قوله لها، "كنْ"، قلنا: ليس فراركم من ذلك إِلاّ من لزوم القبحِ عقلًا؛ وهو باطلٌ، كما سبق. ثمّ هو لازمٌ عليكم، بخلقِ الشيطانِ والنفوس والشهوات، وتركِ منعِ العصاةِ مواقَعةَ المحظوراتِ. وحينئذٍ، لا فائدة في منعِكم قبيحًا واحدًا يَلزَمكم مِن جنسِه قبائح.
ومنها قوله تعالى:{اهدنا الصراط المستقيم}. هو طريق الحقِّ. ووجه الدلالة أنهم سألوا الهدايةَ منه. فلو لم تكن إِليه، لما سألوها؛ إِذ هم مستقِلّون بها، على زعمِ الخصم فإِن قيل:"ظاهر الآية محالٌ؛ لأنهم طَلَبوا الهدايةَ منه؛ وطالب الشيء لا يكون ذلك الشيء حاصلًا له؛ وإِلاّ لكان طلبُه له، مع حصوله له، تحصيلًا للحاصل؛ وهو محالٌ"؛ قلنا: فلابدّ للطلب من فائدةٍ، فإِن كان لحقيقة الهداية، حصل مقصودُ الدليل. وإِن كان للاستمرار على الهداية، أو لزيادة الهداية، حصل أيضًا. لأنّ الاستمرار على الشيء والازدياد منه فعلٌ، ولابدَّ. فإِمّا أن يكون مِن العباد، كما زعمتم؛ فهو محالٌ، لبطلان فائدة السؤال؛ أو من الله سبحانه؛ فهو المطلوب.
قوله، {أنعمت عليهم}. يعني بالهداية. فأضافوها إِليه؛ فاقتُضِيَ استقلالُه بها. وهو خلاف قول الخصم، "إِنّ العبد يهدى نفسَه ويُضِلّها".
[سورة البقرة]
فمنها قوله:{أولئك على هدى من ربهم}. "مِن" لابتداء الغاية؛ أي "منشأُ الهدى وابتداؤه هو ربّهم؛ فهو صادرٌ عنه، وحاصلٌ منه". وليست للتبغيض؛ لاستحالته على الربّ سبحانه. ولا للجنس؛ إِذ ضابطُ الجنسيّةِ أن يكون ما بعدَها أعمَّ مّما قبلها وجنسًا