[الوجوه العقليّة التي أوردها أبو الحسين البصريّ المعتزليّ]
إِنّا لما استَدللنا على أنّ أفعال العباد مخلوقةٌ لله بدللِ المرجِّح واجبٌ؛ فثَبَت أنّ فِعلَ العبد مخلوقٌ لله، وقد سبق تقريره غير موضعٍ- اعترضوا عليه بما أَمكَن.
ثمّ قال أبو الحسين وأصحابُه:"هذا الاستدلال فاسدُ الاعتبارِ؛ لأنّه في مقابَلة ما عُلِم صحّتُه بضرورة العقلِ. وبيانه من وجوهٍ.
"الأوّل: أنّ كلّ عاقلٍ يَعلم بالضرورة منه ومِن غيرِه أنّ أفعاله تابعةٌ لدواعيه وقصوده وجودًا وعدمً. فيَتناول الطعامَ والشرابَ، إِذا احتاج إِليهما، ولم يمنعه منهما مانعٌ. ويَتركهما إِذا لم يحتج إِليهما، أو كانا مضرَّين له. وكذلك يَنغمِس في الماء في الصيف للتبّرد، ويجتنبه في الشتاء للمضرّة؛ وبالعكس في اصطلاء النار. وإِذا كان الموجِد للشيء هو الذي يَحدث منه الفعلُ موافِقًا لدواعيه، وثَبَتَ أنّ العقلاء تَقرَّر في بداية عقولهم أنّ العبد كذلك، علِمنا أنَ عِلمَهم بأنهم هم الذين يُحدثِون أفعالهم علمٌ ضروريٌّ.
"الثاني: أنّ العقلاء بالضرورة يَعلمون حُسنَ ذمّش المسيءِ ومَدحِ المحسِنِ، ويُبادِرون إِلى ذلك ببدائههم. حتى إِنّ الصبيّ، أو المراهق، إِذا أعطيتًه كِسرةً، مَدَحَك؛ وإِذا ضربته بحجرٍ آلمه، بادر إِلى ذمِّ الرامي له ببديهته، دون الحجر أو غيره. ولولا علمه بالضرورة أنّ الرامى هو الفاعل، لما استحسَن ذلك، ولا بادر إِليه. كما إِنّه هو وغيره من العقلاء لا يَذمّون القصيرَ لقِصره، ولا الأسود لسواده؛ لأنّ ذلك ليس فِعلًا له.
"الثالث: أنّ الواحد منّا يجد من نفسه وغيره أنّه إِذا طَلَب من غيره فعلًَا، أنّه يَطلُبه منه طلبَ عالِمٍ أنّه الذي يوجِد ذلك الفعلَ ويُحدثِه؛ ولذلك يَتلطّف له بكلّ ممكنٍ، ويَتوصّل إِليه بكلّ وسيلةٍ، من تواضعٍ ومدحٍ وترغيبٍ وترهيبٍ وتوبيخٍ ومعاتبةٍ على التَرك، ويتعجَب منه، ويُعَجٍَب منه، ويُعَجِّب منه غيره، ويَستظرفه. ونجد من أنفسنا الفرقَ الضروريَّ بين أمرِ الشخص بالقيام والقعود، وبين أمرِه بإِيجاد السماء والكواكب، أو حيوانٍ، أو إِنسانٍ مِثله. ولولا أنّ العلم لضروريّ حاصلٌ بأنّ العبد هو الموجِد بأفعاله