قوله، "وجعلوا القضاء والقدر معذرةً. وكيف يَصِحّ ذلك، مع قوله:{وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين}! "قلتُ: إِن أَراد أنّ أهل السنّة يجعلون القدَر عذرًا في استباحة مُواقعة المحظورات، أو إِسقاط الحدود الشرعيّة عن فاعِلها، وتأثيمهم إِيّاه، فهذا محالٌ عليهم. بل العاصى هو نفسه يُقدِدم عليها، وهو يُلزِم نفسَه، وبعلمه فعَلها، يظلم نفسه، ويَستغفِر ربَّه. وإِن أراد أنهم يجعلونه عذرًا في دفعِ لائمة المخلوقِين وتوبيخهم عنهم، بمعنى أنّ ذلك واجب الوقوع منهم بالتقدير الأزليّ، وأنّ القوّة البشريّة لا تستطيع الخروجَ عن مقدور القدرة الإِلهيّة، فهو حقُّ. وبذلك احتًج آدمُ على موسى، فصَوب النبيّ عليه السلام احتجاجه؛ ولم يَكُن لموسى ولا لغيره تقريعُ عاصٍ وتوبيخُه ما لم يكن ذلك حدًّا مشروعًا. وبهذا جَعَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم موسى محجوجًا.
فإِنّ الله سبحانه عَدلٌ لا يَظلِم أحدًا. فإِذا رَتَّب على جناية العاصي حدًّا، عاجلًا أو آجلًا، كان ذلك مسقِطًا لحُكمِ المعصية بالنسبة إِلى الآدميّين، حتى يَعود العاصي بعد معصيته كحالِه قبلَها. والجميع عِبادُ الله؛ فليس لأحدٍ منهم أن يؤذِي أحدًا بتوبيخٍ ولا تقريعٍ. ولهذا، لَمَّا رُجِمَت الغامِدّةُ، سبها خالدٌ، فنهاه النبيّ عليه السلام. ولَمَّا جيء بشارب خمرٍ ليُجلَد، فلَعَنَه بعضُهم، فنهاه النبيّ عليه السلام، وقال: "إِذا زَنَت أَمَةُ أحدِكم، فليَجلِدها ولا يُثرب"، أي لا يَلومها ويوبِّخها. وهذا جَرَى على قاعدة العدل، والفرق بين تَصرُّف اللهِ التكليفيّ، وتَصرُّفه الكونّى. فباعتبار الأوّلِ، رَتب الحدودَ على المعاصي، وباعتبار الثاني، مَنَع من توبيخ العاصي، جمعًا بين عدلِ اللهِ وقدرته ونفوذ مشيئته وإِرادته.