فليس له مطالبته وإنما يطالب غريمه وهو المقضي عليه.
ولما فرغ من الكلام على رجوع الشاهدين شرع يتكلم على حكم تعارض البينتين فقال: (وإن تعارض بينتان وأمكن الجمع) بينهما (جمع) ولا تسقط واحدة منهما؛ كما لو ادّعى عليه بأن له عليه إردباً من قمح وأقام عليه به بينة ثم ادعى عليه بإردب وأقام عليه أخرى، أو ادعى بأنه أسلمه ثوباً في مائة إردب حنطة ببينة، ثم ادعى بأنه أسلمه ثوبين في مائة، أو قامت عليه بينة بأنه أعتق عبده فلان وأخرى بأنه طلق زوجته.
(وإلا) يمكن الجمع بينهما (رجح) أي وجب الترجيح (ببيان السبب) للملك؛ فإذا شهدت بينة بأن هذا ملك لزيد وأطلقت، وشهدت أخرى بأنه ملك عمرو وبينت سبب الملك (كنسج ونتاج) بأن قال: نسجه أو كتبه أو ورثه أو نتج عنده أو اصطاده فإنها تقدم على من أطلقت لزيادتها بيان سبب الملك.
(أو) بسبب ذكر (تأريخ) فتقدم على من لم تؤرخ (أو تقدمه) أي التأريخ، فتقدم على المتأخرة به ولو كانت المتأخرة أعدل، وكذا من بينت السبب
(أو) بسبب (مزيد) أي زيادة (عدالة) في إحداهما فتقدم على الأخرى.
(لا) بمزيد (عدد) ولو كثر، ما لم تفد الكثرة العلم. واعلم أن الترجيح بما مر إنما يكون في الأموال وما آل إليها خاصة، وهو ما يثبت الحق فيه بالشاهد واليمين على المذهب. وأما غيرها -مما لا يثبت إلا بعدلين- كالنكاح والطلاق والعتق والحدود - فلا يقع الترجيح في شيء من ذلك بزيادة العدالة لأنها بمنزلة الشاهد الواحد، وهو لا يفيد في غير الأموال. ولذا كان يحلف مقيمها في الأموال معها على الراجح. قال ابن عرفة: قال بعض القرويين: اختلف إذا كانت إحدى البينتين أعدل هل يحلف صاحب الأعدل؟ ففي المدونة أنه يحلف. اهـ.
ــ
الحكم للمقضي عليه على الراجعين بالغرم هرب أو لم يهرب. فإن أغرم أغرمهما.
قوله: [فليس له مطالبته]: المناسب مطالبتهما.
قوله: [على رجوع الشاهدين]: يقرأ بكسر الدال جمع شاهد والمراد به الجنس الصادق بالواحد والمتعدد قوله: [وإن تعارض بينتان]: عرف التعارض بأنه اشتمال كل من البينتين على ما ينافي الأخرى.
قوله: [وأمكن الجمع]: أي عقلاً.
وقوله: [جمع]: أي بالفعل أي عمل به وصير إليه.
قوله: [كما لو ادعى عليه]: الأظهر بناؤه للفاعل والضمير يعود على المدعي المعلوم من المقام وكذا ما بعده.
قوله: [بأن له عليه أردباً من قمح] إلخ: ظاهره أنه في هذا المثال يحكم عليه بالأردبين من غير تفصيل، وليس كذلك بل تقدم في الإقرار ما حاصله أنه إذا شهد في ذكر بمائة وفي آخر بمائة فالمائتان لأن الأذكار أموال عند ابن القاسم وأصبغ. بخلاف الإقرار المجرد عن الكتابة فمال واحد على التحقيق. كما إذا أقر عند جماعة بأن عليه لفلان مائة، ثم أقر عند أخرى بأن لفلان عليه مائة فمائة فقط وهذا إذا لم يذكر اختلاف السبب واتفقا صفة وقدراً وإلا فالمائتان نحو له علي مائة من بيع ثم له علي مائة من قرض أو قال: مائة محمدية، ثم مائة يزيدية اهـ فإذا علمت ذلك فلا يلزمه الإردبان في مثال الشارح إلا إذا اختلف سببهما أو صفتهما وإلا فلا يلزمه إلا واحد على أن هذا المثال ليس من تعارض البينتين في شيء
قوله: [ثم ادعى بأنه أسلمه ثوبين]: المناسب ثم أنكر الخصم وادعى أنه تعاقد معه على ثوبين في المائة كما يؤخذ من الأصل والخرشي لصحة التعارض، وإلا فلو بقي المثال على ما هو عليه لجرى على التفصيل المقدم المأخوذ من باب الإقرار وليس فيه تعارض البينتين.
قوله: [عبده فلان]: هكذا نسخة المؤلف بصورة المرفوع والمناسب النصب؛ لأنه بدل مما قبله وهو منصوب مفعول للفعل قبله، وظاهر كلام المؤلف أنه متى أمكن الجمع جمع كانت البينتان بمجلس أو مجلسين قال بعض القرويين: لا فرق بين المجلسين والمجلس الواحد لأن كل بينة أثبتت حكماً غير ما أثبتته صاحبتها وأمكن الجمع بلا تناقض، وما مشى عليه الشارح من العمل بالبينتين في الطلاق والعتق طريقة المدنيين. وأما ابن القاسم وباقي المصريين فيقدمون الأعدل، فإن تكافأتا سقطتا، وفرض المسألة اتحاد الوقت الذي تستند إليه كل من البينتين مع نفي ما قالته الأخرى حتى يأتي التعارض.
قوله: [ببيان السبب]: أي بسبب ذكر سبب الملك.
قوله: [فإنها تقدم على من أطلقت]: أي شهدت بالملك المطلق.
قوله: [وكذا من بينت السبب]: أي فتقدم ولو كانت من لم تبينه أعدل.
قوله: [أي زيادة عدالة]: أي في البينة الأصلية لا في المزكية.
قوله: [ما لم تفد الكثرة العلم]: أي بحيث يكون جمعاً يستحيل تواطؤهم على الكذب، وما ذكره المصنف من أن زيادة العدد لا تعد مرجحاً إلا إذا أفادت العلم هو قول ابن القاسم وهو المشهور، وقيل: إنه يرجح بزيادة العدد كزيادة العدالة وفرق للمشهور بأن القصد من القضاء قطع النزاع ومزيد العدالة أقوى في التعدد من زيادة العدد إذ كل واحد من الخصمين يمكنه زيادة عدد الشهود بخلاف العدالة.
قوله: [مما لا يثبت إلا بعدلين]: أي وكذا ما يثبت بامرأة أو امرأتين.
قوله: [فلا يقع الترجيح في شيء من ذلك]: هذا هو مذهب المدونة وعليه مشى خليل في باب النكاح حيث قال: وأعدلية إحدى بينتين متناقضتين ملغاة ولو صدقتهما المرأة.