للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تأثر به ابن المقفع في إرشاداته وتوجيهاته انظر إلى قوله: "لا تكونن نزر الكلام والسلام ولا تفرطن بالهشاشة والبشاسة. فإن إحداهما من الكبر، والأخرى من الخسف".

فقوله: "إن إحداهما من الكبر، جاء مؤكداً، لأنه تعليل لهذه النصيحة، وكأنه حين نهى عن النزر في القول، والإفراط في الهشاشة والبشاشة، تطلعت النفس المتلقية إلى معرفة سبب ذلك، وصارت كأنها مترددة فأسعفتها بهذه الجملة المؤكدة" (١).

وانظر إلى قوله: "أعلم أن حسن الكلام لا يتم إلا بحسن العمل، وأن المريض الذي قد علم دواء مرضه إن لم يتداو به، لم يغن عليه به شيئاً، ولم يجد لدائه راحة ولا خفة، فاستعمل رأيك ولا تحزن لقلة المال، فإن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال، كالأسد الذي يهاب وإن كان رابضا، والغني الذي لا مروءة له يهان وإن كان كثير المال، كالكلب لا يحفل به، وإن طوق، وخلخل بالذهب، فلا تكبرن عليك غربتك، فإن العاقل لا غربة له: كالأسد الذي لا ينقلب إلا ومعه قوته، فلتحسن تعاهدك لنفسك: فإنك إذا فعلت ذلك جاءك الخير يطلبك كما يطلب الماء انحداره" (٢).

ثم أعد النظر في هذه الجمل: (فإن الرجل ذا المروءة قد يكرم على غير مال) (فإن العاقل لا غربة له) (فإنك إذا فعلت ذلك جاءك الخير يطلبك) تجد أن كل جملة منها قد أكدت بتأكيد واحد شأن الجمل التي تلقى إلى السائل المتردد، مع أنها ألقيت إلى خالي الذهن، ولكن لما تقدم على كل منها ما يلوح بالخبر - وذلك عن طريق النهي عن الحزن قبل الجملة الأولى،


(١) ... خصائص التراكيب ٥١.
(٢) ... كتاب "كليلة ودمنة" جـ ١٢١.

<<  <   >  >>