وبعد نقد وصل البحث البلاغي إلى ما وصل إليه - كما رأيت - على يد المناطقة والمتفلسفة، وعلى يدي المتكلفين والمتعلمين ص ٣٢ من الشعراء، وظل الحال على ما هو عليه، من الدوران في فلك القوالب المنطقية التي وضعتها المدرسة السكاكية، ومن إيراد الشواهد المكررة المعادة إلى العصر الحديث حتى نادى بعض أعداء العربية بالانصراف عن البلاغة العربية.
ولهذا فإن بعض الغيورين على اللغة العربية وعى تراثها البلاغي الخالد قد قصدوا للدفاع عن البلاغة العربية، منادين بإصلاح حالها، وذلك بإعادة دراستها من جديد، وفتح باب الاجتهاد في البحث البلاغي الذي أوصدته المدرسة السكاكية، والاستفادة من التراث البلاغي الأصيل، مضيفين إليه ما يمكن أن يلائم مقتضيات العصر وتقدم الحضارة.
فكان من هذه الأبحاث:
١ - "دفاع عن البلاغة" للأستاذ أحمد حسن الزيات: وهو ذو شخصية ممتازة من بين كتاب العربية في العصر الحديث وصاحب أسلوب رائع بين الأساليب العربية، وقد أرجع ما تعانيه البلاغة العربية في هذا العصر إلى بلايا ثلاث (١):
الأولى: السرعة فقد جنت الآلة على الناس، وكانت جنايتها على الفكر بعامة: أن استحال تقدير القيم التي يحتاج وزنها إلى الروية والتأمل، فظهر الخبيث في صورة الطيب، ودخل الرديء في حكم الجيد، وكانت جنايتها على البلاغة: أنها أصابت الأذهان، فلم تعد تملك الإحاطة بالأطراف ولا الغوص على الأعماق، وأصابت الأفهام فلم تعد تصبر على معاناة الجيد من بليغ الكلام، وأصابت الأذواق، فلم تعد تميز بين الحلو والمر.
(١) ... دفاع عن البلاغة صـ ٥ (مطبعة الرسالة - القاهرة ٩٤٥).