فالشاعرة - وقد هالها الخبر بقتل ابنها - تبث من كانوا حولها مصابها الجلل، وتعجبهم من غريب أمر ابنها الذي ذهب يطلب النجاة من الهلاك فصادفه الهلاك، وتلك حال تقتضي منها أن تخبر عنه بضمير الغائب ولكنها التفت إليه مخاطبة له، كأنه يسمعها - وإن لم يكن معها - ومناجية له، ومقضية له بما يعتمل في صدرها وما يعتصر قلبها من الحزن والألم، وتلك حال أخرى تقتضي منها أن تخاطبه مخاطبة الحاضر الذي لا يغيب عن خاطرها.
وقال أشجع بن عمرو السلمي يرثي:(١)
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس ختى غيبته الصفائح
فأصبح في لحد من الأرض ميتاً ... وكانت به - حيا - تضيق الصحائح
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك متى ما تجن الجوانح!
فما أنا من رزه وإن جل جازع ... ولا يسرون بعد موتك فادح
كأن لم يمت حي سواك ولم تقم ... على أحد - إلا عليك - النوائح
لئن حسنت فيك المرائي وذكرها ... لقد حسنت من قبل فيك المدائح
الصفائح: أحجار عراض تغطى بها القبور، والصحائح: جمع صحح المكان المتسع المستوي، والجوانح: الضلوع؛ وسميت بذلك لأن فيها ميلاً