للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لقد كنت أتمنى أن أرى «الحمة» من زمان طويل فكانت تمنعني موانع الحياة، حتى تفضل فأخذني إليها الإخوان الأساتذة: نهاد القاسم، وأنيس الملوحي، ومصطفى الزرقا، ومرشد عابدين.

سلكنا إليها طريقاً (١) معبداً مررنا فيه على «القنيطرة» وعلى القرى الشركسية الأنيقة البهية المنظر، حتى إذا جاوزنا «فيق» نظرنا فإذا تحت أقدامنا منظر من أروع ما خلق الله من منظر. مشهد يستهوي الفؤاد جمالاً، ولكنه يملأ القلب لوعة وأسى: منظر بحيرة «طبريا» والبلاد من حولها والقرى على سفوح الجبال المطبقة بها. منظر بلادنا التي صارت لغيرنا، وقد كانت لنا، بنينا بأيدينا بيوتها، وحرثنا أرضها، وفيها بقايا من أجسادنا، وفيها رفات أجدادنا. في كل شبر منها ذكرى لنا، وقطعة من قلوبنا.

وكان حولنا أطفال من أطفال اللاجئين، ينظرون إلى بيوتهم التي أُخرجوا منها فصار حراماً عليهم دخولها، وأموالهم التي تركوها فيها وحرموا منها، حتى صاروا يشحذون بعدها. ينظرون إليها من علٍ كما ينظر النسر الجريح على الذرى إلى طعامه تأكله الكلاب.

إنه ليس في تاريخ البشرية مظلمة أشنع منها ولا أبشع، كلا، ولا الأندلس. إنها ديارنا نحن من ألفي سنة نُخرج منها ويؤتى بناس ما هي بديارهم ولا ديار آبائهم، ولا يعرفونها، وليس لهم فيها أثر ولا لها في قلوبهم ذكرى؟

ولكن الله عادل والظلم لا يدوم.

إننا سنستردها، إلا نحن فأولادنا.


(١) الطريق والسبيل يذكران ويؤنثان، والتذكير في الطريق أفصح أما في السبيل فالتأنيث.

<<  <   >  >>