للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد وصفهم الله بالصدق فمن أراده فليلزمْ طريقَهم، ويتبعْ منهجهم فلقد كانوا حريصين حرصاً بالغاً على المحافظة على هذه الشريعة، وشمل هذا الحرص المحافظة على نصوصها والمحافظة على فهمها، ليتحقق لهم وللأجيال من بعدهم ثباتاً في النص وثباتاً في الفهم (١).

فكان من كبار الصحابة - رضوان الله عليهم - من يترك "المندوب" المستحب مخافة أن يعتقد الناس أنه واجب، وهذا منهم محافظة على ثبات الحكيم الشرعي، لأن ما كان مستحباً ينبغي أن يكون كذلك ومن اعتقد أنه واجب بُيّن له بالقول وبالفعل أنه غير واجب، فَتَرْكُ بعض الصحابة له بيانٌ بالعمل على أنه ليس بواجب، وهذا البيان -وهو المحافظة على ثبات الحكم آكد- فهو إذن مقدم على فعل المستحب.


(١) قد يقال إن الله قد تكفل بحفظ كتابه، حكى أبو عمرو الداني في طبقات القراء له عن أبي الحسن بن المنتاب قال: كنت يوماً عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق، فقيل له: لِمَ جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال القاضي: قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في أهل التوراة "بما استحفظوا من كتاب الله" فوكل الحفظ إليهم، فجاز التبديل عليهم، وقال في القرآن: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". فلم يجز التبديل عليهم، الموافقات ٢/ ٤٠.
وهذا حق، ولكن الله ابتلى هذه الأمة بأنْ أمرها بتعلّم الكتاب والسنة وتعليمهما وتطبيقهما في واقع الأرض ودعوة البشرية للاسلام وجعل لذلك طريقاً محدداً يميّز بين الحق والباطل، من اتبعه في فهم هذه الشريعة نجى ومن حاد عنه هلك، يمثل هذا الطريق قوله - عليه الصلاة والسلام - في وصف الفرقة الناجية: "ما أنا عليه وأصحابي" وقد تحدث عنه الشاطبي وأبرزه في الاعتصام تحت عنوان: "الباب العاشر في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان" ٢/ ٢٩٠ - فمن سلك طريق الصحابة في الفهم نجى، ومن خالف عن طريقهم هلك، ونسأل الله السلامة، وسيأتي في هذه الرسالة إن شاء الله توضيح لمعالم منهج الاستدلال عندهم مع كشف مسالك النظر المخالفة لعل الله أن يلحقنا بصحابة نبيه - صلى الله عليه وسلم - غير مبدّلين
ولا مغيرين. فإن ذلك علامة الصدق في الدين، "ولا يصلح آخر هذه الأمة إلّا بما صلح به أولها".

<<  <   >  >>