الاستقراء يثبت أن هذه البينات والجوامع لا بد من العلم والعمل بها معًا
ويشهد لذلك الاستقراء الذي يوضح أن المسائل الشرعية التي دلت عليها تلك البينات والجوامع هي علمية قبل أن تكون عملية، فالذي أثبت العمل هو نفسه الذي أثبت العلم، وقد أشار الإِمام ابن القيم إلى هذا المعنى (١)، ونحن هنا نفصله ونوضحه ونورد من الأحكام العملية التطبيقية ما يدل على ذلك، ونختارها من أبواب شتى لتكون أكثر دلالة على المقصود، من ذلك:
١ - التحاكم إلى شريعة الله: فإنها وإن كانت في ظاهرها عملية إلا أنها علمية كذلك، فهي عقيدة وعلم قبل أن تكون تطبيقيًا عمليًا، فلا بد أن يصدق المرء أن الحاكم هو الله سبحانه وأن شريعته هي الحق والصدق، وأن الرسول محمد - عليه الصلاة والسلام - قد بلغها كما أراد الله سبحانه، وأن التحاكم إليها والرضى بها عقيدة لا ينجو الإِنسان من عذاب الله إلا بها.
٢ - إقامة فريضة الجهاد: فهي فريضة عملية، يسبقها اعتقاد وعلم بأن الله فرضها على المسلمين، وجعلها من معالم الدين، وأنهم إذا أقاموها أطاعوا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، واستحقوا الثواب في الآخرة دار الجزاء، وإن لم يقيموها عند
(١) انظر مختصر الصواعق المرسلة ٤٨٩، لإبن القيم اختصره محمد الموصلي، ط ١، ١٤٠٥ هـ دار الباز للنشر. وفيه يقول -رَحِمَهُ اللهُ- عن الأمة في الصدر الأول: "فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث (يعني أخبار الأحاد .. ) في الخبريات العلميات كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينًا. فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته" ٤٨٩.