للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بأحكام هذه الشريعة - وجد له علماؤه المجتهدون فيها ما يحتاج إليه من الأحكام فيتجدد الاستنباط مع المحافظة على "الأصل"، وهو المصدر والشاهد على سلامة ذلك الاستنباط، ولا يمكن "للعقل" أن يقوم بهذه المهمة، لأنها في حقيقتها هي عبارة عن إنزال الوحي - الذي هو مجموع النصوص - والنص الواحد هو عبارة عن "الأصل" الذي هو أحد أركان القياس، وهذا الوحي متضمن لمعاني وحكم مناسبة منضبطة منصوص عليها أو متضمنة فيه وهي ما يطلق عليها العلل والحكم، وهذه هي مادة القياس، فمن يستطيع أن يقوم بهذه المهمة وهي إنشاء "الأصل" المتضمن للعلل والحكم إلّا الشارع الحكيم؟ ولهذا كان القياس منهجاً شرعياً لا مسلكاً عقلياً، أي أنه لا يُبنى على حكم العقل، وإنما يُبنى على حكم الشرع، وحينئذ يتحقق فيه الثبات والشمول على ما بيناه سابقاً، ويسلم من ضد ذلك، إذ لو كان عقلياً لوقع في الاختلاف والاضطراب والقصور.

بقي أن نفسر عمل المجتهد في نقل الحكم من الأصل إلى الفرع وهو عمل بشري أداته العقل، فكيف والحال كذلك يكون القياس منهجًا شرعياً، ونذكر جواب الإِمام الشاطبي في هذا الموضع ثم نبني عليه، وحاصله: أن القياس نظر في أمر شرعي، مأخوذ من الأدلة الشرعية يُبنى عليها ويُضبط بها، فإذا ألحقنا المسكوت عن حكمه وهو "الفرع" بالمنصوص عليه وهو "الأصل" فإن العقل لا دخل له في إنشاء حكم الأصل الذي هو المنصوص عليه، ولا في حكم "الفرع" الذي هو المسكوت عنه، فإن الأول عُلم بالنص وهو من عند الله سبحانه، والثاني عُلم بعد أن تتبع المجتهد علة الحكم فوجدها في "الفرع" فَنَقَل الحكم إليه التزامًا بأمر الشارع حيث طلب منه أن يسوي بين "الفرع" و"الأصل" في الحكم إذا استويا في العلة، والعقل لم يُنشئ الحكم في النص، ولم يحكم بوجوب إلحاقه بالفرع، وهذا معنى قولنا القياس منهج شرعي، لا عقلي، فهو وإن كان فيه جهد عقلي إلّا أنه كما يقول أبو إسحاق الشاطبي: "مهتد فيه بالأدلة الشرعية يجري ما أجرته ويقف حيث وقفته" (١).


(١) الموافقات ١/ ٨٨ - ٨٩.

<<  <   >  >>