وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية فإن الأحكام المكية مبنية على الإِنصاف من النفس وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين.
وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات والرخص والتخفيفات، وتقرير العقوبات في الجزئيات لا الكليات فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة، وما أشبه ذلك، مع بقاء الكليات المكية على حالها وذلك يؤتي بها في السور المدنيات تقريرًا وتأكيدًا فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين وتمت واسطتها بالطرفين، فقال الله تعالى عند ذلك:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وإنما عُنيَ الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان التنازع والمشاحة، والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط للفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل إلى ما حرم الله فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة حين صار التشاحّ ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يُبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم، تارة بالشدة وتارة باللين" (١).
ويشتمل هذا النص على المعاني الآتية:
١ - المشروعات المكية غير محددة، لكي يجتهد المكلفون ويأخذ كل بما يليق به من المقدار الذي يستطيعه، وقد كان الصحابة يثابرون عليها ويبلغون بها غاية مجهودهم.
٢ - أنه لمّا اتسعت خطة الإِسلام ودخل فيه الناس أفواجًا ووقعت منهم بعض المخالفات لبعض المشروعات وارتكاب بعض المنهيات، ولاحت بينهم