للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المساجد، وآكل خبز الدُّخن (١)، وسمِعْتُ أبا الفَضْل بن بُنَيمان الأديبَ يقول: رأيت أبا العلاء في مسجدٍ من مساجد بغداد يكتب وهو قائم؛ لأنَّ السَّرَاج كان عاليًا.

إلى أن قال: فَعَظُمَ شأنُه في القلوب، حتَّى إن كان يمر في هَمَذَان فلا يبقى أحدٌ رآه إلا قام، ودعا له، حتَّى الصِّبْيان واليهود، وربما كان يمضي إلى بلدة مُشْكان (٢) يصلِّي بها الجُمُعة، فيتلقَّاه أهْلُها خارج البلد: المسلمون على حِدَة، واليهود على حِدَة يدعون له، إلى أن يدخُلَ البلد، وكان يُفتح عليه من الدُّنيا جُمَلٌ، فلم يدَّخِرْها، بل ينفقها على تلامذته، وكان عليه رسومٌ لأقوامٍ، وما كان يبرح عليه ألف دينار هَمَذَانية أو أكثر من الدَّيْن مع كَثْرة ما كان يُفتح عليه.

وكان يطلبُ لأصحابه من النَّاس، ويعِزُّ أصحابَه ومَنْ يلوذُ به، ولا يحضُر دعوةً حتَّى يحضُرَها جماعةُ أصحابه.

وكان لا يأكل من أموالِ الظَّلَمة، ولا قَبِلَ منهم مدرسةً قَطُّ ولا رِباطًا، وإنما كان يقرئُ في داره، ونحن في مسجده سُكَّان، وكان بقرئ نصف نهارِه الحديثَ، ونصفَ القُرْآن والعِلْمَ، وكان لا يغشى السَّلاطين، ولا تأخذه في الله لَوْمةُ لائمٍ، ولا يمكِّن أحدًا أن يعمل في مجلسه (٣) منكرًا ولا سماعًا، وكان ينزل كلّ إنسان منزلتَه، حتَّى تألَّفَتِ


(١) الدخن: حب الجاروس. "اللسان" (دخن)، وانظر "المعجم الوسيط": ١/ ٢٧٤.
(٢) قرية من نواحي روذبار من أعمال همذان. "معجم البلدان": ٥/ ١٣٥.
(٣) هكذا عندنا في الأصل، ومثله في "تذكرة الحفاظ": ٤/ ١٣٢٦، وفي "سير أعلام النبلاء": ٢١/ ٤٣ "في محلته"، وهي تصحيف، ذهب محققا "السير" إلى أنها الأثبت لأنهما لم يدركا معنى كلمة السماع.

<<  <  ج: ص:  >  >>