قيمته حين نعرف أن ابن منظور نثر فيه كتب اللغة التي قبله، إن شخصية ابن منظور واضحة في معجمه حتى وهو ينقل نصوص غيره، ومثل ذلك يقال في كتب النحو .. والرِّجال .. وما أكثر ما أُلِّفَ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ويبقى لكل سيرة سِيمَةٌ خاصة تميزها عن غيرها رغم وحدة الموضوع، هذا الشيء الخاص هو من مؤلِّف السيرة نفسه، فسيرة ابن إسحاق هي غير سيرة ابن هشام مع أنه هذَّبها فقط، والسيرة الحلبية هي غير الروض الأنف للسُّهيلي .. فهل يسمَّى هذا تكرارًا كما يحلو للبعض أن يقول؟ ! ..
وفي كتابينا هذين يتبدَّى الأمر نفسه، ثمة تشابه في الموضوع، وفي ترتيب التراجم، بل تشابه إلى حد بعيد في النُّقُول، ولكن يبقى ثمة شيء يباعد بين الكتابين، هو شيء نابع من اختلاف الذَّهبي عن ابن عبد الهادي تكوينًا، وثقافة ومنهجًا.
إن وحدة الموضوع وحَّدَتْ طبيعة مصادرهما ومراجعهما، إن ما يجب أن يكتب عن ابن مَنْده محدِّثًا مثلًا لا يمكن أن يختلف كثيرًا عما يمكن أن يكتبه مؤرِّخ آخر غير الذهبي وابن عبد الهادي، إن مادة الترجمة مُلْك مُشَاع لكل مؤرخ، ولكن ما يفرق بين مؤلف وآخر دقة النَّقْل، وتحرِّي الصَّواب، وحُسْن الإِيراد .. وشيء في أعماق التصور يجعله يقدِّم نقلًا على نقل، بحيث تترابط أجزاء الصورة لتكون وحدة .. إن النقل وحده لا يكفي، بل إيراد النُّقول على نَسَقٍ ما هو الذي يحدِّد أصالة مؤلِّف عن آخر، ويحدِّد المنهج الذي يتبعه لرسم صورة المترجَم له، بل إن طبيعة النُّقول، وعمن ينقل تحدِّد فلسفته وموقفه تجاه من يترجم له، ومن ثَمَّ ينأى كتاب عن آخر رغم أنَّ طريقهما واحدة ..