وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، وَطَلَاقِهِ، وَظِهَارِهِ، وَإِيلَائِهِ، وَلَمْ يَزَلِ الصِّبْيَانُ يَذْهَبُونَ فِي حَوَائِجِ أَوْلِيَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ، وَيَقْبَلُونَ قَوْلَهُمْ فِي ثُبُوتِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِي الْحِلَّ، وَالْحُرْمَةَ وَيَعْتَمِدُونَ فِي وَطْءِ الْفَرْجِ فِي الْأَمَةِ وَالزَّوْجَةِ عَلَى قَوْلِ الصَّبِيِّ، فَلَمْ يُهْدِرِ الشَّارِعُ أَقْوَالَ الصَّبِيِّ كُلَّهَا.
بَلْ إِذَا تَأَمَّلْنَا الشَّرْعَ رَأَيْنَا اعْتِبَارَهُ لِأَقْوَالِهِ أَكْثَرَ مِنْ إِهْدَارِهِ لَهَا، وَإِنَّمَا تُهْدَرُ فِيمَا فِيهِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، كَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ، وَالْحُقُوقِ، فَأَمَّا مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ كَالْإِسْلَامِ، فَاعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ إِهْدَارِهِ، إِذْ أَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ تَشْهَدُ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ فِيهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَطَاعَةٌ لِلَّهِ، وَقُرْبَةٌ لَهُ، فَلَمْ يَكُنِ الْبُلُوغُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا: كَحَجِّهِ وَصَوْمِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَقِرَاءَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَعَا عِبَادَهُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَجَعَلَ طَرِيقَهَا الْإِسْلَامَ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يُجِبْ دَعْوَتَهُ فِي الْجَحِيمِ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مَنْعُ الصَّبِيِّ مِنْ إِجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ مَعَ مُسَارَعَتِهِ، وَمُبَادَرَتِهِ إِلَيْهَا، وَسُلُوكِهِ طَرِيقَهَا، وَإِلْزَامِهِ بِطَرِيقِ أَهْلِ الْجَحِيمِ، وَالْكَوْنِ مَعَهُمْ، وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَسَدِّ طَرِيقِ النَّجَاةِ عَلَيْهِ مَعَ فِرَارِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا؟ هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ، وَلِأَنَّ هَذَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ صَبِيًّا، وَكَانَ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ، وَيَقُولُ.
سَبَقْتُكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا ... صَبِيًّا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حِلْمِي
فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ بَاطِلًا لَا يَصِحُّ؟ وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الْعَبِيدِ بِلَالٌ، وَمِنَ الْمَوَالِي زَيْدٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute