أقسم بالله الذي علت كلمته. وعمت رحمته. وسخرت القلوب والعقول رأفته ومحبته. وجعل الأرواح جنوداً مجندة فما تعارف منها ائتلف. وما تناكر منها اختلف. إنني أشوق إلى تقبيل أقدام شيخي من الظمآن إلى الماء. ومن الساري لطلعة ذكاء. وليس تقبيل الأقدام. مما ينفع من الشوق الأوام. وقد كانت الحال هذه وليس بيني وبينه حاجزاً إلا الجدار. إذ كان حفظه الله جار الدار. فكيف الآن بالغرام. وهو حفظه الله بمصر وأنا بالشام. وليس غيبة مولاي الاستاذ عنا. إلا غيبة العافية عن الجسم المضنى. بل غيبة الروح. عن الجسد البالي المطروح. ولا العيشة بعد فراقه. وهجر أحبابه ورفاقه. إلا كما قال بديع الزمان عيشة الحوت في البر. والثلج في الحر. وليس الشوق إليه بشوق وإنما هو العظم الكسير. والنزع العسير. والسم يسري ويسير. وليس الصبر عنه بصير. وإنما هو المصاب. والكبد في القصاب. والنفس رهينة الأوصاب. والحين الحائن وأين يصاب. ولا أعرف كيف أصف شرف الوقت الذي ورد فيه كتاب شيخي بخطه. مزيناً بضبطه. بلى قد كان شرف عطارد. حتى اجتمع من أنواع البلاغة عندي كل شارد. وأما خطه فكما قال الصاحب بن عباد هذا خط قابوس. أم جناح طاووس. أو كما قال أبو الطيب. من خطه في كل قلب شهوة. حتى كان مداده الأهواء. وأنا أقول ما هو أبدع وأبرع. وفي هذا الباب أنفع وأجمع. بل هو خط الأمان من الزمان. والبراءة من طوارق الحدثان. والحرز الحريز. والكلام الحر الأريز. والجوهر النفيس العزيز. وأما الكتاب نفسه فقد حسدني عليه اخواني واستبشر به أهلي وخلاني. وكان تقبيلي لأماليه. أكثر من نظري فيه. شوقاً إلى يد وشته وحشته. واعتياد اللثم أنامل جسته ومسته. وأما اليراعة فلا شك أنها ينبوع اليراعة. حتى جرى منها من سحر البلاغة ما جرى. فجاء الكتاب كسحر العيون بما راح يسبى عقول الورى. وينادي باحراز خصل البيان من الثريا إلى الثرى. ومن هذا الكتاب معزياً له في والدته وقد بلغه خبر وفاتها بالمغرب. أطال الله يا سيدي بقاك. ولا كان من يكره لقاك. ورعاك بعين عنايته ووقاك وأبقاك. وضمن لك جزاء الصبر. وعوضك عن مصابك الخير والأجر. ولقد كنت أردت أن أجعل في مصاب سيدي بأمه. متعه الله بعلمه وحلمه. ودفع عنه سورة همه وغمه. قصيدة تكون مرثية. تتضمن تعزية وتسلية. فنظرت في مرثية أبي الطيب لأمه. واكتفيت بنظمها ونثرها. وعقدها وحلها. وانتخبت قوله منها
لك الله من مفجوعة بحبيبها ... قتيلة شوق غير مكسبها وصما
ولو لم تكوني بنت أكرم والد ... لكان أبوك الضخم كونك لي أمّا
لئن لذ يوم الشامتين بيومها ... فقد ولدت مني لأنفهم رغما
فقلت هذه حال مولانا الراغم لأنوف الأعدا. المجد لأسلافه حمداً ومجداً. القاتل بشوقه لا خطأ ولا عمداً. ثم لما رأيت مرثيته في أخت سيف الدولة.
إن يكن صبر ذي الرزية فضلاً ... يكن الأفضل الأعز الأجلا
أنت يا فوق أن تعزي عن الأحبا ... ب فوق الذي يعزيك عقلاً
وبألفاظك أهتدي فإذا عزا ... ك قال الذي قلت له قبلا
قد يكون الخطوب حلواً ومراً ... وسلكت الأيام حزناً وسهلاً
وقتلت الزمان علماً فما يعرب ... قولاً ولا يجدد فعلا