سيد جمع بين شرفي السيادة والزهادة. ولم يفارق مهده حتى وضع على النجم مهاده تقيل في الاباء أباه وأسلافه. واصطبح من معتق الأدب رحيقه وسلافه فهو السري في الورع ولا أنسبه إلى السقط. وهو السري في فنون الأدب ولا أقول في الشعر فقط أنشدني بعض السادة له أبياتاً تمتزج بالأرواح. ويطرب مكررها في الغدو والرواح وهي
قدحت زناد الراح في الأقداح ... قبسا فأغنتنا عن المصباح
مصباح راح في زجاجة راحة ... كالكوكب الدري في الاصباح
مشمولة تسري الشمول بنشرها ... في طيه من طيبها الفياح
مزجت فكادت أن تطير وإنما ... حبست بنسج الدر في الأقداح
تسري بسر الشكر في أسرارنا ... لكن يباح بهادم البواح
شنف بها الكاسات مع أكياسها ... ودع الصحاة وخالفن نصاحي
الشيخ داود الأنطاكي
الحكيم المشهور بالبصير
أعمى قائداه التوفيق والتسديد. ومحجوب كشف عنه غطاؤه فبصر ذكائه حديد أدرك ببصيرته ما لم تدركه أولوا الأبصار. وفطن بمصر فسار صيته في الأمصار. جمع فنون العلم جمعاً أصبح به علماً فرداً. وسرد متونه وشروحه عن ظهر قلب سرداً. إلى أدب بهر بتبيانه. وأظهر حكمة شعره وسحر بيانه. فهو عالم في شخص عالم. وعلم شيدت به دوارس المعالم. واعتنى بالطب فصار به طباً عديماً. وفاق أربابه حديثاً وقديماً. حتى كان يقول لو رآني ابن سينا لوقف ببابي. أو ابن دانيال لاكتحل بتراب أعتابي. وله فيه مؤلفات حرر مطولاتها بباع غير ذي قصر. وهذب موجزاتها ففاقت كل مبسوط ومختصر. منها تذكرة الاخوان. في طب الابدان. وشرح نظم القانون. المتكفل بحل هذه الفنون. ومختصر القانون وبغية المحتاج وقواعد المشكلات. ولطائف المنهاج. واستقصاء العلل. وشافي الأمراض والعلل. والنزهة المبهجة. في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة. وفي غير الطب شرح قصيدة ابن سينا وفي الأدب تزيين الأسواق. بتفصيل أشواق العشاق. إلى غير ذلك وكان قد هاجر في ابتداء حاله إلى مصر فباهى ببحر علمه نيلها. وأنال أهلها فواضل فضل ما كان سواه لينيلها. حتى دب داء الحسد في علمائهم. وثقلت وطأته على هام عظمائمهم. فرموه بالالحاد. وفساد الاعتقاد. وزعموا أنه يرى رأي القدماء من الفلاسفة والحكماء ويعتقد أن العالم قديم وأن الأرض والسماء لا يطوي لها أديم وما ثبت قديم امتنع عدمه وأن الخلق لا يعاد له أول. وقوله تعالى كما بدانا أول خلق نعيده ونحوه متأول إلى غير ذلك من مقالاتهم وشبهات ضلالاتهم فلما كثر منهم فيه اللغط وعاد ثمر منه قتاداً يخترط ركب متن عزمه على الفرار من ذلك الكمين فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين.
وتوجه تلقاء البيت الذي من دخله كان آمناً وكان صنع الله تعالى بنجابة ضامنا فألقى عصاه بالبلد الأمين وحل من أهله محل الفريدة من العقد الثمين وخدمه سلطان الحرمين الحسن ابن أبي نمي وآوى من كنفة في ظل ظليل بعد صكة عمي. وألفت من اليوم الأسود والموت الأحمر. إلى النعمة البيضاء والعيش الأخضر واستناف من الحياة عمراً جديداً ومد إلى نيل أمانيه باعاً مديداً حتى تصرمت لياليه وأيامه وفوضت من هذه الديار خيامه فتوفى سنة تسع وألف رحمه الله تعالى وها أنا ملي عليك من ابكار شعره وعونه ومحاسن قريضه وعيونه. ما يروق وتستهدي لمعانه البروق.
فمنه قوله
بروحي أقي من خلتها حين أقبلت ... على أثر حزن تنثر الدمع في الخد
قضيباً من الكافور يمطر لؤلوءاً ... من النرجس الوضاح في فرش الورد
وقوله
نظرت إليها والسواك قد ارتوى ... بريق عليه الطرف مني باكي
تردده من فوق در منظم ... سناه لأنوار البروق يحاكي
فقلت وقلبي قد تفطر غيرة ... أيا ليتني قد كنت عود أراك
فقالت أما ترضى السواك أجبتها ... وحقك ما لي حاجة بسواك
وقوله
لقد فقت أرباب المحاسن كلهم ... وزدت عليهم بالرشاقة والعقل
فمذ أعجز المغتاب شيء بقوله ... رماك بأوصاف القطيعة والبخل
فلا تثبتي بالهجر زور مقاله ... ولكن صليني أو عديني بالوصل