وحرر ثالث عشري رجب الحرام سنة ثمان وخمسين وتسعمائة ثم لما توفى السلطان سليمان. وقع بين السيد المذكور والأمراء خلف في العهود والايمان. فخرج السيد عليهم ثائراً. وقصدهم في جموعه سائراً. فقتل منهم كثيراً. وأصبح لنار الحرب مثيراً. واستولى على أكثر البلاد. وصدقهم الجهاد والجلاد. حتى أرسل السلطان سليم وزيره سنان باشا وجهز معه من الجيوش فورد اليمن وأسر من أسر واسترد ما ذهب. وأطفأ ثائرة ذلك اللهب. ولم تزل الأقطار اليمانية. في حوزة العثمانية. حتى قضى الله للأئمة الزيدية بالنصر. فغلبوهم عليها في أوائل هذا العصر. وأخرجوا جميع الأروام منها. وكفوا أكف المتغلبين عنها. بعد أن قتلوهم القتل الذريع. وتركوهم بين سليب وصريع. وكان آخر وزير دخل اليمن من الأروام قانصوه الوزير فإنه قدم مكة المشرفة لعشر بقين من حرم الحرام افتتاح عام تسع وثلاثين وألف فقتل الشريف أحمد بن عبد المطلب وتوجه إلى اليمن فلم يتم له مرام. ولا صح له نقض ولا ابرام. فرجع راضياً من الغنيمة بالاياب. لا يملك إلا ما عليه من الثياب. فاستبدت الزيدية. بالممالك اليمنية. وقضت ما في أنفسها من الأمنية. فهم اليوم ولاتها حزناً وسهلاً. ورؤساؤها فتى وكهلاً. وامام اليمن في عصرنا هذا وهو سنة اثنين وثمانين وألف الامام المتوكل على الله إسمعيل بن القاسم وقد ذكرت نسبه في سلوة الغريب. وأسوة الأريب وهذا وإن كان خارجاً عن غرض الكتاب.
إلا أن الاستطراد اقتضى ذكره ولا يخلو مع ذلك من فائدة. ولنعد الآن إلى ما نحن بصدده. وللسيد محمد بن عبد الله صاحب الترجمة من النظم والنثر ما يبهر الألباب. ويدخل إلى المحاسن من كل باب. فمن نثره ما كتبه إلى والده السيد عبد الله وهو يشتمل على شيء من شعره وصورته بسم الله الرحمن الرحيم مطالعة المملوك وطليعة باله. ولسان حاله وترجمان بلباله. وحديث سره. وبيان خبيئة صدره. مظهر جليل برجائه. ومصدر دخيل دائه. عبرة أجرتها عين جنانه. في عبارة لسانه. وزفرة صعدها لوعة أشجانه. في اشارة بيانه. ومهجة أهدتها في أثناء سلامه. لهبة أوامه. وحشاشة أثارتها نار غرامه. في لسان أقلامه
هي نفسي أودعتها نفس الشوق ... وقلبي تجري به الأفلام
وهي دمع تفيض من لوعة البين ... وفي أدمع المشوق الكلام
بل هي رجع صدى وساوس الشوق الكلام والنزوع. ومجرى الزفرات المرددة من وهيج الضلوع. برهان ما أكن من الداء الدفين. وعنوان ما أحسن من كلف الفؤاد الحزين
هي مرآة صفائي إنما ... أترآى لك في مرآتها
فإذا ما شاهدتها مقلة ... شاهدت نفسي على علاتها
مرآة نفس رقت وجداً وكآبه. ولم يدع منها صبابة الفراق غير صبابه. فلو أنها عرض لكانت هوى في فؤاد مهجور. أو لوعة في ترائب مصدور. ولو كانت قلباً لثوى في جوانح عاشق. أو دمعاً لما جرى إلا من محاجر وامق. ولو أنها جرم لكان ياقوتة راح. أو جوهر لما كان إلا من جوهر الأفراح. شمس الفضل المستوي على عرش الكمال. وقمر الفخر السائح في فلك السؤدد والفعال. مركز السماحة والحماسة. ومعدن الكرم والرئاسة. وقدوة الملوك الساسة
فتى من طينة المجد ... وما السودد العد
جواهر مجده انتظمت ... نظام جواهر العقد
كريم عرف رياه ... يفوح بنفحة الند
مساعيه مشغفة ... يواقيت من المجد
شمائله مقتدة من برد النسيم. وأخلاقه منتسخة من الروض الوسيم. ومحاورته مختلسة من الدر النظيم. وأنواره يقتبس منها محيا البدر في الليل البهيم. ذكره أطيب من نفس الحبيب. وروحه أخف من مغيب الرقيب. ومفاكهته أشهى من رشف الثغر الشنيب. وصدره أوسع من الأفق الرحيب.
رحيب فناء الصدر ليس يضيق ... ولا حرج لكن يعيد كما يبدي
ففيه مجال للتواضع والعلى ... وفيه نصيب للفكاهة والجد