للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القطعية، بل خلافه يوجد، ومع قطع النظر عن هذه الأمور كلها لا دلالة أيضا لتلك الروايات على المدعَى.

ولنذكر عدة من شبهاتهم ونبين عدم دلالتها على مدعاهم فنقول:

(الشبهة الأولى) أن الأئمة كانوا أزيد من الأنبياء علما فيكونون أفضل منهم رتبة أيضا، لأة الله تعالى يقول: {قل هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون} وقد روى الراوندي عن أبي عبد الله قال: إن الله فضل أولي العزم من الرسل على الأنبياء بالعلم، وورثنا علمهم وفضلنا عليهم، وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يعلمون، وعلمنا علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلا الآية المذكورة. (١)

(الجواب) عن هذه الشبهة بأن هذا الخبر بعد تسليم صحته يدل على زيادة الأئمة في العلم واستيعابهم علوم المرسلين لأن المتأخر يكون مطلعا على علم المتقدم وناظرا فيه فيحيط بعلمه، بخلاف المعاصر والمتقدم فإنه لا يمكن له ذلك، مثاله أن النحوى في هذا العصر يكون مطلعا على مسائل (اللباب) (٢) و (الوافي) (٣) وتصانيف ابن مالك (٤) وابن هشام (٥) والأزهري (٦) وغيرهم ممن سبقوا من النحاة، ويكون بلا شبهة علمه بمسائل النحو أزيد من علم كل هؤلاء المذكورين، لأن كل واحد منهم لم يكن مطلعا على المسائل المستخرجة لغيره والأفكار الناشئة من طبعه البتة، وقد تقرر أن الصناعات إنما تتكامل بتلاحق الأفكار، وهذا النحوي المتأخر حصل له الوقوف على كل منها، ومع هذا لا تكون رتبته في النحو مساوية لرتبة أحد من أولئك العلماء فضلا عن أن يتقدم عليهم، لأن الرسوخ في العلم وتعمق النظر والغوص والفكر ومعرفة المسائل بدلائلها ودراية المآخذ لكل دقيقة واستخراج المسائل النادرة بقوة الفحص والتتبع في كلام العرب بالأصالة فضيلة لا يبلغها أصلا الاستيعاب والغوص بتلك المسائل. وكذا المنطقي في هذا الزمان لا يكون مساويا في المرتبة للمعلم الأول والمعلم الثاني والشيخ الرئيس فضلا عن أن يقال إنه أفضل منهم وسابقهم في الدرجة، مع أنه يعلم مستخرجات كل منهم بحيث لم يكن لكل منهم الاضطلاع بها أصلا. والذي قرأ العروض لا يفوق الخليل بن أحمد. سلمنا لا يلزم من كثرة العلم كثرة الثواب، ومدار الفضل عند الله على كثرة


(١) الخرائج والجرائح: ٢/ ٧٩٦؛ ورواها أيضا الصفار، بصائر الدرجات: ص ٢٢٩.
(٢) كتاب (اللباب في علل البناء والإعراب) لأبي البقاء محب الدين عبد الله بن الحسين العكبري (ت ٦١٦هـ)،
(٣) (الوافي في النحو) تصنيف محمد بن عثمان بن عمر البلخي
(٤) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني، ولد بالأندلس، وانتقل إلى دمشق وفيها توفي سنة ٦٧٢هـ. بغية الوعاة: ١/ ١٣٠؛ نفح الطيب: ٢/ ٢٢٢.
(٥) جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام، النحوي، قال عنه ابن حجر: «انفرد بالفوائد الغربية والمباحث الدقيقة والاستدراكات العجيبة والتحقيق البالغ والإطلاع المفرط والاقتدار على التصرف في الكلام»، توفي سنة ٧٦٢هـ. الدرر الكامنة: ٣/ ٩٣؛ شذرات الذهب: ٣/ ١٩١.
(٦) أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، من أئمة الأدب واللغة، توفي سنة ٣٧٠هـ. معجم الأدباء: ٦/ ٢٩٧؛ البلغة: ص ١٨٦.