للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم إن سرق فاقطعوا رجله». (١) قال البغوي: اتفق أهل العلم على أن السارق أول مرة تقطع يده اليمنى، ثم إذا سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى، ثم إذا سرق ثالثا تقطع يده اليسرى بناء على قول الأكثر، ثم إذا سرق رابعا تقطع رجله اليمنى ثم إذا سرق بعده يعزر ويحبس. والذى قطع أبو بكر يده اليسرى كان في المرة الثالثة فحكمه موافق لحكمة - صلى الله عليه وسلم -. (٢)

والجواب عن الثاني أن الصديق لم يحرق أحدا في حال الحياة، لأن الرواية الصحيحة إنما جاءت عن سويد عن أبي ذر أنه أمر بلوطي فضربت عنقه ثم أمر به فأحرق، (٣) وإحراق الميت لعبرة الناس جائز كالصلب، ولذلك فإن الميت لا تعذيب له بمثل هذه الأمور لعدم الحياة. وعلى فرض تسليم روايتهم فالذى يجيبون به عن إحراق علي بعض الزنادقة فهو جوابنا، وقد ثبت ذلك في كتبهم، فقد روى المرتضى الملقب عندهم بعلم الهدى في كتاب (تنزيه الأنبياء والأئمة) أن عليا أحرق رجلا أتى غلاما في دبره. (٤)

والجواب عن الثالث أن هذا الطعن لا يوجب إلزام أهل السنة، إذ العلم بجميع الأحكام بالفعل ليس شرطا في الإمامة عندهم، بل الاجتهاد. ولما لم تكن النصوص مدونة في زمنه ولا روايات الأحاديث مشهورة في أيام خلافته استفسر من الصحابة. قال في (شرح التجريد) أما مسألة الجدة والكلالة فليست بدعا من المجتهدين، (٥) إذ يبحثون عن مدارك الأحكام ويسألون من أحاط بها علما، ولهذا رجع علي في بيع أمهات الأولاد إلى قول عمر، (٦) وذلك لا يدل على عدم علمه، بل هذا التفحص والتحقيق يدل على أن أبا بكر الصديق كان يراعي في أحكام الدين كمال الاحتياط ويعمل في قواعد الشريعة بشرائط الاهتمام التام. ولهذا لما أظهر المغيرة مسألة الجدة سأله: هل معك غيرك؟ (٧) وإلا فليس التعدد شرطا في الرواية، فهذا الأمر في الحقيقة منقبه عظمى له. وقد روى عبد الله بن بشر أن عليا سئل عن مسألة فقال «لا علم لي بها». (٨) جازى الله تعالى هذه الفرقة الضالة بعدله حيث يجعلون المنقبة منقصة.

فرصاص من أحببته ذهب كما ... ذهب الذي لم ترض عنه رصاص


(١) روي عن الحارث بن حاطب قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بلص، فقال اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: اقتلوه، قالوا: يا رسول الله إنما سرق، قال: اقطعوا يده، قال: ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق أيضا الخامسة فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بهذا حين قال اقتلوه ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه منهم عبد الله بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال: أمروني عليكم فأمروه عليهم فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه». أخرجه النسائي في السنن، كتاب قطع السارق والطبراني في الكبير والحاكم.
(٢) والحكم نفسه ثبت عن علي - رضي الله عنه - في كتب الإمامية، فقد روى ابن بابويه وغيره عن الباقر قال: «كان أمير المؤمنين - عليه السلام - إذا سرق الرجل أولا قطع يمينه، فإن سرق ثانيا قطع رجله اليسرى، فإن سرق الثالثة خلده في السجن، فإن سرق في السجن قتله». من لا يحضره الفقيه: ٤/ ٦٤؛ ابن حيوان، دعائم الإسلام: ٢/ ٤٧٠؛ النوري، مستدرك وسائل الشيعة: ١٨/ ١٢٦.
(٣) واتفقت روايات أهل السنة والشيعة الإمامية بأن من أشار على الصديق - رضي الله عنه - بحرق اللوطي هو علي - رضي الله عنه -، فعن صفوان بن سليم: «أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - في خلافته له أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر - رضي الله عنه - جمع الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار فاجتمع رأي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يحرقه بالنار فكتب أبو بكر - رضي الله عنه - إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار». سنن البيهقي: ٨/ ٢٣٢. وأخرج النوري من الإمامية بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده: «أن أبا بكر أوتي برجل ينكح في دبره، فقال: يا علي ما الحكم فيه؟ فقال: أحرقه بالنار، فإن العرب تأنف من المثلة، فأحرقه أبو بكر بقوله - عليه السلام -». مستدرك الوسائل: ١٨/ ٧٩.
(٤) تنزيه الأنبياء: ص ١٥٩.
(٥) ابن المطهر الحلي، شرح التجريد: ص ٤٠٢.
(٦) روى الشافعي عن عبيدة قال: «قال علي - رضي الله تعالى عنه -: استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد فرأيت أنا وهو أنها عتيقة فقضى به عمر حياته وعثمان بعده فلما وليت رأيت أنها رقيق ولسنا ولا إياهم نقول بهذا نقول بقول عمر لا تباع». الأم: ٧/ ١٧٥؛ ابن أبي شيبة، المصنف: ٤/ ٨٨.
(٧) عن قبيصة بن ذؤيب قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال فقال لها: ما لك في كتاب الله شيء وما لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس فقال: المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها». أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. قال ابن حجر: (وإسناده صحيح). تلخيص الحبير: ٣/ ٨٢
(٨) روى عبد الله بن بشر أن علي بن أبي طالب سئل عن مسألة فقال: «لا علم لي بها، ثم قال: وأبردها على كبدي إن سئلت عما لا أعلم فأقول: لا علم لي بها». عزاها المناوي إلى (مسند الدارمي). فيض القدير: ٤/ ٢٧٨