للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالليل وظلمته. كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه. يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما خشن. كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه - إلى أن قال - لا يطمع القوى في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه يقول: يا دنيا يا دنيا ألي تعرضت أم بي تشوقت؟ هيهات هيهات، غري غيري قد بتتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطوك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال: فذرفت دموع معاوية، فما يملكها وهو ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء. ثم قال معاوية: رحم الله تعالى أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها. (١) انتهى.

وما يذكره المؤرخون من أن معاوية - رضي الله عنه - كان يقع في الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد وفاته ويظهر ما يظهر في حقه ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي أن يعول عليه أو يلتفت إليه، لأن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب، ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف، وأكثرهم حاطب ليل لا يدرى ما يجمع. (٢) فالاعتماد على ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمهمة القفر الذي تضل فيه القطا وتقصر دونه الخطا مما لا يليق بشان عاقل فضلا عن فاضل، وما جاء من ذلك في بعض روايات صحيحة وكتب معتبرة رجيحة فينبغي أيضا التوقف عن قبوله والعمل بموجبه، لأن له معارضات مسلمة في الصحة والثبوت. على أن من سلم من داء التعصب بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الأماثل، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.


(١) تاريخ دمشق: ٢٤/ ٤٠١.
(٢) بل فيهم صاحب الهوى الذي يكذب تزلفا لحاكم منحرف، أو متعصبا لمذهب يبيح الكذب نكاية بالخصم ومن يخالف المذهب.