للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بخروجها عنه إلى الصحراء ووضع حملها تحت جذع النخلة كي لا يتلوث بيت المقدس بنفاسها. ولما أخذ المخاض أمير المؤمنين فاطمة بنت أسد (١) أوحى إليها الله: ادخلي في الكعبة وشرفي بيتي بولادة هذا المولود الشريف. فأنصف الأن، من الأفضل والأشرف من هذين المولودين؟ فدعا الحجاج لحليمة بالخير، وودعها معززة محترمة. (٢) انتهت هذه الحكاية المكذوبة والقصة الأعجوبة.

ولا يخفى ما فيها من بطلان حتى على الصبيان، حيث إن حليمة كما لا يخفى على من تصفح كتب التواريخ والسير لم تدرك زمن الخلفاء الراشدين، بل قد اختلف المؤرخون في كونها أدركت زمن البعثة وآمنت بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأيضا إن الحجاج مشهور بسفك الدماء ظلما ولا سيما أهل البيت ومن له تعلق بهم لأنه كان من النواصب المظهرين لعداوة الأمير كرم الله تعالى وجهه وذريته الطاهرين - رضي الله تعالى عنهم -، ولذا قتل كثيرا من علماء أهل السنة بسبب محبتهم لأولئك الكرام، وقد أهان كثيرا من الصحابة الكرام وأهان أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (٣) ولا يتمكن أحد من الحضور لديه من غير أن يطلب حضوره، فعلى فرض أن حليمة أدركت زمنه كيف يمكنها الوصول إليه حتى تشد الرحال للحضور بين يديه؟ ومع ذلك لم ينقل عن أحد رجوع ذلك الظالم عن بغض الأمير الذي يرى ذلك سببا لنيله الجاه الخطير. ثم إنا إذا رجعنا إلى ما نسبوه إلى حليمة من الشبهات، وهاتيك الدلائل الواهيات، وجدناها كسراب بقيعة، لا يخفى ما فيها من الأمور الشنيعة، وذلك من وجوه: أما أولا فلأن تفضيل الأمير على الأنبياء، ولا سيما على أولي العزم خلاف ما عليه العقلاء من سائر ملل الأنام فضلا عن ملة الإسلام، فإن المولى لا يصل إلى مرتبة النبي في كل شريعة من الشرائع، ونصوص الكتاب تنادى على تفضيل الأنبياء على جميع خلق الله. (٤)

وأما ثانيا: فإن تلك الاحتجاجات مبنية على ملاحظة مناقب الأمير مع زلات الأنبياء، ولو لوحظت مع كمالاتهم ومناقبهم لخفيت على الناظرين، وغابت عن أعين المبصرين. ويلزم عليهم أن الأمير بل وأبا ذر وعمارا وسلمان وغيرهم من الصحابة الكرام أفضل من النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا نظر ما ورد في حقهم من الآيات المشعرة بمدحهم مع ما ورد من معاتباته - عليه


(١) فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية والدة علي وإخوته، أسلمت وهاجرت وتوفيت بالمدينة، قال ابن سعد: «كانت امرأة صالحة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزورها ويقيل في بيتها». طبقات ابن سعد: ٨/ ٢٢٢؛ الإصابة: ٨/ ٦٠.
(٢) أورد الرواية بطولها ابن شاذان فقال: «مما روي عن جماعة ثقات أنه لما وردت حرة بنت حليمة السعدية .. »، الفضائل: ص ١٣٦ - ١٣٨؛ البيضاني، الصراط المستقيم: ١/ ٢٣٠.
(٣) روى الأعمش قال: «شكونا الحجاج بن يوسف، فكتب أنس إلى عبد الملك: إني خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين، والله لو أن اليهود والنصارى أدركوا رجلا خدم نبيهم لأكرموه». تهذيب الكمال: ٣/ ٣٧٣؛ سير أعلام النبلاء: ٣/ ٤٠٢.
(٤) أما عند الإمامية فعلي - رضي الله عنه - أفضل من جميع الأنبياء، والروايات في ذلك كثيرة، منها ما رواه القمي عن جابر عن أبي عبد الله: «قال: قلت: لم سميت فاطمة الزهراء، زهراء؟ فقال: لأن الله عز وجل خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها، وغشيت أبصار الملائكة، وخرت الملائكة لله ساجدين، وقالوا: إلهنا وسيدنا، ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري، وأسكنته في سمائي، خلقته من عظمتي أخرجه من صلب نبي من أنبيائي، أفضله على جميع الأنبياء وأخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري، يهدون إلى حقي، وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي». الإمامة والتبصرة: ص ١٢٦.