للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الآخرى، فحينئذ يلزم هاهنا ما يلزم ثمة. (١)

وأما بطلان الثالث فلأن الاعتبارات أمر عدمي ولا يكفي في العلّية وجود المنشأ، والحسن والقبح بالمعنى فيه من الوجوديات، ولا يكون علة الوجودي اللاوجودي، مع أن تضاف إليه تلك الإعتبارات أفعال أيضا فحسنها وقبحها إن كان بالمعنى المتنازع فيه لزم الدور والتسلسل، (٢) أو بمعنى غيره فلا يلزم سراية الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه باعتباره في المضاف للتباين. وأما بطلان الاحتمالات الباقية فظاهر، إذ فساد أجزاء المجموع كلها يستلزم فساده وفساد المعينات طرأ فساد المطلق ولا محالة بالضرورة. فقد تبين من هذا البيان أن الأفعال في نفسها لا اقتضاء لها ما ذكر مطلقا (٣) وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها، (٤) كما أن الأعيان كانت في العدم فاختصاصها وتشخصاتها في الوجود بانحاء الحقائق والعوارض لا لذواتها ولا لعوارضها ولا لاعتبارات فيها بل لجاعلها وإرادته الأزلية المرجحة فقط، على أن تعلق الثواب والعقاب بالأفعال أمر مجهول غير معقول المعنى.

الثاني: أن الثواب والعقاب ليسا بواجبين على الله تعالى، بل هما تفضل ورحمة وعدل وحكمة، فلو كانت الأفعال تقتضي الحسن والقبح لذاتها أو لجهة واتعبار فيها لكانا واجبين وقد بين بطلان اللازم.

الثالث: أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله، بل أفعاله مخلوقة لله تعالى كما بينت، فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثواب والعقاب عليها.

الرابع: أنه لو كان حسن الفعل وقبحه عقليين للزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام سواء ورد به الشرع أم لا، واللازم باطل لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (٥) ولقوله تعالى {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا} وكذا عدم الحجة للناس على الله تعالى، وكذا لزم عدم بقاء


(١) قال ابن تيمية: «إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام ولا على صفات هي علل للأحكام، بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر لمحض الإرادة لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر، ويقولون إنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش وينهى عن البر والتقوى، والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط، وليس المعروف في نفسه معروفا عندهم ولا المنكر في نفسه منكرا عندهم بل إذا قال يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فحقيقة ذلك عندهم أنه يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم بل الأمر والنهي والتحليل والتحريم ليس في نفس الأمر عندهم لا معروف ولا منكر ولا طيب ولا خبيث إلا أن يعبر عن ذلك بما يلائم الطباع وذلك لا يقتضي عندهم كون الرب يحب المعروف ويبغض المنكر، فهذا القول ولوازمه هو أيضا قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف والفقهاء مع مخالفته أيضا للمعقول الصريح فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء». مجموع الفتاوى: ٨/ ٤٣٣ ..
(٢) قال الجرجاني: «التسلسل: هو ترتيب أمور غير متناهية، وأقسامه أربعة: لأنه لا يخفي إما أن يكون في الآحاد المجتمعة في الوجود، أو لم يكن فيها كالتسلسل في الحوادث، والأول إما أن يكون فيها ترتيب أو لا والثاني كالتسلسل في النفوس الناطقة، والأول إما أن يكون ذلك الترتيب طبيعيا كالتسلسل في العلل والمعلولات والصفات والموصوفات أو وضعيا كالتسلسل في الأجسام والمستحيل عند الحكم الأخير دون الأولين». التعريفات: ص ٨٠.
(٣) أي لا تقتضي مدح فاعلها أو ذمه مطلقا.
(٤) قال ابن تيمية: «إن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا وإذا نهى عن شيء صار قبيحا واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع». مجموع الفتاوى: ٨/ ٤٣٦.
(٥) قال القرطبي: «أي لم نترك الخلق سدى بل أرسلنا الرسل، وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر». الجامع لأحكام القرآن: ١٠/ ٢٣١.