[قصص عن بعض الأطفال في علو الهمة في الأفعال]
كان أول ما علم من ابن الزبير رضي الله عنه أنه كان ذات يوم يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمر رجل عليهم وهم يلعبون، فصاح الرجل عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقرى، يعني: أبى أن يوليه دبره، لكن تراجع إلى الخلف، كما يفعل المجاهد والمقاتل الشجاع الذي لا يعطي عدوه دبره أبداً، في حين أن زملاءه كلهم فروا، ثم قال: يا صبيان! اجعلوني أميركم وشدوا بنا عليه! يعني: عينوني أميراً عليكم، وهيا بنا نهاجم هذا الرجل، ونطرده عن طريقنا.
ومر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو صبي يلعب مع الصبيان، ففر الصبيان ووقف هو، فقال له عمر: (ما لك لم تفر مع أصحابك؟! قال: يا أمير المؤمنين! لم أجرم فأخاف، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك).
فمثل هذه الشخصية تستحق أن نصفها بأنها شخصية واعدة، تعد بخير كبير في المستقبل، وهي أحق بقول القائل: رُفعت إليك وما ثُغرْ تَ عيون مستمع وناظر ورأوا عليك ومنك في المـ ـهد النهى ذات البصائر وقوله: (ما ثُغرْتَ): يقال: ثغر الغلام إذا سقطت أسنانه الروابع اللبنية، وكأنه يقول: رفعت إليك العيون وتطلعت إليك وأنت صغير.
ونظر الحطيئة إلى ابن عباس وهو يتكلم في مجلس عمر فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعلاهم في قوله؟! فقال ابن مسعود: (لو بلغ أسناننا ما عشره منا رجل).
يعني: أن هذا الرجل دهش لما رأى ابن عباس يتكلم في مجلس أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ببلاغة وفصاحة وعلم، فقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه، وعلاهم -أي: ارتفع عنهم- في قوله؟! فقال ابن مسعود: لو بلغ أسناننا ما عشره منا رجل.
يعني: لو كان في السن مثلنا ما بلغ أحد منا عشر علمه.
ورأى بكير بن الأخنس المهلب -وهو الأمير البطل قائد الكتائب- وهو غلام فقال: خذوني به إن لم يسود سوراتهم ويبرع حتى لا يكون له مثلُ أنه يتنبأ أن هذا سوف يسود أشراف قومه وهو طفل صغير.
وقال حمزة بن بيض لـ مخلد بن يزيد بن المهلب: بلغت لعشر مضت من سنيـ ك ما يبلغ السيد الأشيب فهمّك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا لِدَاتك: جمع لِدى، يعني: مَن وُلد معك، ويوافقك في السن.
ونظر رجل إلى أبي درة في مجلس المأمون فقال: إن همته ترمي به وراء سنه.
وقال يحيى بن أيوب العباد: حدثنا أبو المثنى قال: سمعتهم بمرو يقولون: قد جاء الثوري، قد جاء الثوري.
فخرجت أنظر من هذا الثوري الذي يعظمونه هذا التعظيم، فإذا هو غلام قد نقل وجهه، أي: بدأ ينبت شعر وجهه.
قال الذهبي في الإمام الثوري رحمه الله تعالى: كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدث وهو شاب رحمه الله تعالى.
وقال ابن مهدي: رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلاً فقال: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:١٢].
وكان الإمام البخاري رحمه الله تعالى ذكياً سريع الحفظ، فقد حفظ سبعين ألف حديث وهو صغير، وكان ينظر إلى الكتاب فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة.
وقال محمد بن حاتم: كنت أختلف أنا والبخاري وهو غلام إلى الكتاب، فيسمع ولا يكتب، وبقي على ذلك أياماً، فكنا نقول له: ما لك لا تكتب مثلنا؟! فلما بلغ ما كبتناه خمسة عشر ألف حديث طلب منا أن نسمعها له، فقرأها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نصلح كتبنا من حفظه! فالله سبحانه وتعالى لا يعطي منصب الإمامة في الدين لأي إنسان، بل لا بد أن يكون متأهلاً ذا جدارة واستحقاق.
وروى الذهبي عن محمد بن أبي حاتم، قال: سمعت الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى يحكي عن طفولته يقول: كنت أختلف إلى الفقهاء بمروٍ وأنا صبي، فإذا جئت أستحيي أن أسلم عليهم.
أي: لأنه صبي صغير يجلس مجالس العلماء الكبار والمحدثين، فكان يستحي أن يسلم عليهم، فدخل مرة فقال له مؤدب من أهل مرو: كم كتبت اليوم؟ قال: فقلت: اثنين، وأردت بذلك حديثين، وليس رقم اثنين، فضحك من حضر المجلس، فقال شيخ منهم: لا تضحكوا فلعله يضحك منكم يوماً.
فهذا الشيخ تفرس في الإمام البخاري النجابة منذ صغره.
وقال بكير بن منيف: سمعت البخاري يقول: كنت عند أبي حفص أحمد بن حفص أسمع كتاب الجامع لـ سفيان الثوري من كتاب والدي، فمر أبو حفص على حرف ولم يكن عندي ما ذكر فراجعته، يعني: أنه رد على الشيخ خطأً من نسخته المكتوبة التي يقرأ منها من حفظه وهو طفل صغير، فصحح له الأولى والثانية والثالثة، فسكت ثم قال: من هذا؟ قالوا: ابن إسماعيل، فقال: هو كما قال، واحفظوا أن هذا يصير يوماً رجلاً.
وهناك فرق بين الرجولة وبين الذكورة، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجلاً، الرجولة منصب شريف، ولذلك لا تقال إلا في عظائم الأمور، كقوله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:٢٣].
وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كنت يتيماً في حجر أمي، فدفعتني إلى الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام -يعني: يسكتهم ونحو ذلك- فلما جمعت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث والمسألة فأحفظها، فلم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى عظم فآخذه، فأكتب في العظام، فإذا امتلأ طرحته في جرة، فاجتمع عندي حُبان.
والحب هو: وعاء الماء، وهو مثل الزير أو الجرة، أي: امتلأت الجرة من العظام التي كان يكتب عليها.
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: كنت وأنا في الكتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية، فأحفظها أنا، ولقد كان الصبيان يكتبون إملاءهم، فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم كنت قد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: لا يحل لي أن آخذ منك شيئاً.
وقد كان طفلاً يتيماً بجانب هذه النجابة التي ظهرت عليه منذ صغره.
قال الشافعي: ثم لما خرجت من الكتاب كنت ألتقط الخزف والدفوف -جمع رق وهو: جلد رقيق يكتب فيه- وكرب النخل -وهو السعف العريض- وأكتاف الجمال، وأكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين وأستوهب منها الظهور -أي: ظهور الأوراق المكتوبة؛ لأن ظهرها يكون فارغاً- فأكتب فيها، حتى كان لأمي حُبان مملأتها أكتافاً.
وحفظ الإمام أحمد بن حنبل القرآن في صباه، وتعلم القراءة والكتابة ثم اتجه إلى الديوان، يمرن على التحرير.
يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن نفسه: كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة.
وكانت نشأة الإمام أحمد فيها آثار النبوغ والرشد، حتى قال بعض الآباء: أنا أنفق على ولدي، وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم، وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته.
وكان عم الإمام أحمد يرسل إلى بعض الولاة بأحوال بغداد ليعلم بها الخليفة، وفي مرة أرسلها مع ابن أخيه أحمد بن حنبل فتورع عن ذلك، ورمى بها في الماء، تأثماً من الوشاية، والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر لمسلم.
أي: ولفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثير من أهل العلم والفراسات، حتى قال الهيثم بن جميل: إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه.
وقال الحافظ ابن قدامة رحمه الله: بلغني أن بعض مشايخ حلب قدم إلى دمشق، وقال: سمعت أن في هذه البلاد صبياً يقال له: أحمد بن تيمية، سريع الحفظ، وقد جئت قاصداً لعلي أراه، فقال له خياط: هذه طريق كُتّابه -يعني: أنه يمر إلى الكُتّاب من هذه الطريق- وهو إلى الآن ما جاء، فاقعد عندنا الساعة يمر ذاهباً إلى الكُتّاب، فلما مر قيل: ها هو الذي معه اللوح الكبير، فناداه الشيخ، وأخذ منه اللوح، وكتب له من متون الأحاديث ثلاثة عشر حديثاً، وقال له: اقرأها، فلم يزد على أن نظر فيه مرة بعد كتابته إياه، ثم قال: أسمعه علي، فقرأه عليه عرضاً كأحسن ما يكون، ثم كتب عدة أسانيد انتقاها، فنظر فيه كما فعل أول مرة فحفظها، فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإن هذا لم ير مثله.
فكان كما قال رحمه الله تعالى.