[الفرق بين حب الرئاسة وحب الإمامة في الدين]
من الفروق المهمة أيضاً في هذا الباب: الفرق بين حب الإمامة في الدين وبين حب الرئاسة والزعامة والتسلط على رقاب الناس.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:١٢٤]، قال بعض المفسرين: إنّ هذه الآية بمعزل عن إرادة السلطنة والملك، فإبراهيم عليه السلام لم يطلب الملك والرئاسة والسلطنة، ولا علاقة لهذه الإمامة بالإمامة السياسية والملك والرئاسة وغير ذلك، وإنما تثبت هذه الآية الكريمة أن الإمامة في الدين يحرمها الظالمون من ذريته، فقوله تعالى: ((قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)) أي: اجعل أيضاً من ذريتي أئمة يهدون إلى الدين، ((قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)).
فالآية تدل على أن إمامة الدين لا ينالها الظالمون، ولو كان المقصود من الآية إمامة الدنيا لكان قوله: ((لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) يتصادم مع الواقع؛ لأننا نرى أن الذين ينالون الإمامة السياسية من أزمان بعيدة هم الظالمون، وأن الإمامة آلت في كثير من الأحوال إلى أيدي الظالمين، وأما الإمامة الدينية فلا يمكن أن تقع أبداً في يدي ظالم، وإنما هي لأئمة الهدى.
وكان من دعاء الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أيضاً: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} [الشعراء:٨٣] وهذا ليس كما يتصور بعض الجهال من الناس من أن الحكم هنا بمعنى السياسة والملك، كما حصل من بعض الحراس في بعض الأوقات حيث صادروا كتاب ((جامع العلوم والحكم)) فقد قرأه المسكين الذي صادره: (جامع العلوم والحُكْم) فصادروا الكتاب، ومنعوا دخوله إلى السجن، كما صادروا كتاب: (الأربعين النووية)، وقالوا: هذا متعلق بالأسلحة النووية! فقوله: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا) أي: حكمة، أو حُكْمًا بين الناس بالحق أو نبوة؛ لأن النبي ذو حكم، وذو حكمة، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:٨٣] أي: وفقني للانتظام في سلكهم؛ لأكون من الذين جعلتهم سبباً لصلاح العالم، وكمال الخلق، ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:٨٤] أي: ذكراً جميلاً بعدي أُذكر به، ويقتدى بي في الخير، فهذا طلب للإمامة في الدين لمصلحة الدين، أي: يطلب أن يكون إماماً حتى يهدي الله الناس على يديه، ويقودهم إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الجنة، ولا يقصد الرئاسة، ولا الزعامة، ولا التنافس على مناصب الدنيا.
فقوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) يعني: أُذكر به؛ كي يقتدى بي في الخير، وقد كان ذلك لإبراهيم عليه السلام، كما قال عز وجل: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:١٠٨ - ١١٠].
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: روى أشهب عن مالك أنه قال في قول الله عز وجل: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ): لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحاً، ويرى أنه عمل عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى، وقد قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:٣٩] فموسى عليه السلام كان لا يراه أحد إلا أحبه.
وقال تعالى أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:٩٦] أي: حباً في قلوب عباده، وثناءً حسناً، فنبه تعالى بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:٨٤] على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل.
وجوز بعض المفسرين أن يكون معنى: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ) أي: اجعل لي صادقاً من ذريتي، وأخرج من ذريتي المتأخرة فيما بعد صادقاً يجدد أصل ديني، ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد، وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء في بعض الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم) وهذه الدعوة مذكورة بأصرح من هذا في سورة البقرة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:١٢٩].
وصح من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين) أي: هداة للآخرين، مهتدين في أنفسنا.
وأخبر عز وجل أن من دعاء عباد الرحمن الذين أحبهم وأثنى عليهم، أنهم يقولون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:٧٤]، قال البخاري رحمه الله تعالى في تفسيرها: (إِمَامًا) أي: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا، فلا يصلح أن يكون الإنسان قدوة يقتدي به من كان في زمنه ومن يأتي بعده إلا إذا كان سائراً على نهج من سبقه من السلف الصالح؛ فهذا التفسير دقيق جداً.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) أي: قدوة يقتدى بنا في الخير، فكلما اقتدى بهم في الخير كثير من الناس كان ذلك أكثر ثواباً، وأحسن مآباً، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقياً قدوة، وهذا هو قصد الداعي.
وفي الموطأ: إنكم أيها الرهط! أئمة يقتدى بكم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول في دعائه: (اللهم اجعلنا من أئمة المتقين).
وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى، يقتدي بنا المتقون.
وقال القفال وغيره من المفسرين: في الآية دليل على أن طلب الرئاسة في الدين واجب.
أي: أنّ الرئاسة هنا ليست الرئاسة الدنيوية، بل هي الإمامة في الدين، وذلك أن يصل إلى مرتبة الإمامة كي يهتدي به الناس، ويقوم بهذا الفرض الكفائي.
وكان القشيري يقول: الإمامة بالدعاء لا بالدعوى، يعني: بأن تدعو الله سبحانه وتعالى، وتجتهد في الدعاء، وتسلك أسباب ذلك، وقوله: بالدعاء لأن لازم الدعاء -إذا كان مشتملاً على شروطه- أن يستجيب الله سبحانه وتعالى له، فالمقصود بكلمة (الإمامة بالدعاء) يعني: بتوفيق الله وتيسيره ومنته، لا بما يدعيه كل واحد لنفسه.
وقال إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرئاسة، بل طلبوا أن يكونوا قدوة في الدين.
وقال ابن عباس في قوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) أي: اجعلنا أئمة هدى، كما قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:٢٤].
وعن الحسن قال: من استطاع منكم أن يكون إماماً لأهله -أي: قدوة-، إماماً لحيه، إماماً لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله).
وقد فصل الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى الفرق بين حب الرئاسة، وبين حب الإمامة في الدين في كتاب (الروح)، فقال رحمه الله تعالى: والفرق بين حب الرياسة وحب الإمارة للدعوة إلى الله، هو الفرق بين تعظيم أمر الله والنصح له، وتعظيم النفس والسعي في حظها، فإن الناصح لله، المعظم له، المحب له، يحب أن يطاع ربه فلا يعصى، وأن تكون كلمته هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وأن يكون العباد ممتثلين أوامره، مجتنبين نواهيه، فهذا ناصح لله في عبوديته، وأخلص العبودية لله، وناصح خلقه في الدعوة إلى الله، فهو يحب الإمامة في الدين، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إماماً، يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين، فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى الله أن يكون في أعينهم دليلاً، وفي قلوبهم مهيباً، وإليهم حبيباً، وأن يكون فيهم مطاعاً كي يأتموا به، ويقتفوا أثر الرسول على يده؛ لم يضره ذلك، بل يحمد عليه؛ لأنه داعٍ إلى الله، ويحب أن يطاع الله عز وجل ويعبد ويوحد، فهو يحب ما يكون عوناً على ذلك موصلاً إليه؛ ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه، وأثنى عليهم في تنزيله، وأحسن جزاءهم يوم لقائه، فذكرهم بأحسن أعمالهم وأوصافهم، ثم قال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:٧٤]، فسألوه أن يقر أعينهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه، وأن يسر قلوبهم باتباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته، فإن الإمام والمؤتم متعاونان على الطاعة، فإنما سألوه ما يعينون به المتقين على مرضاته وطاعته، وهو دعوتهم إلى الله بالإمامة في الدين التي أساسها الصبر واليقين قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين هو سؤال أن يهديهم ويوفقهم، ويمن عليهم بالعلوم النافعة، والأعمال الصالحة التي لا تتم الإمامة إلا بها ظاهراً وباطناً.
أي: لن يكونوا أئمة إلا إذا اجتهدوا في الأعمال الصالحة، وفي العلوم النافعة في الظاهر والباطن.
وتأمل كيف نسبهم في هذه الآيات إلى اسمه الرحمن جل جلاله فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان:٦٣] فاختصهم بالإضافة الشريفة إلى اسمه الرحمن، ليعلم خلقه أن هذا إنما نالوه بفضل رحمته، ومحض جوده ومنته، وتأمل كيف جعل جزاءهم في هذه السورة الغرف، وهي المنازل العالية في الجنة؛ لأن العمل الذي اس