[شرف نفس سفيان الثوري]
لقد كره بعض العلماء أن يتحول عن بلده مع إيثاره الخمول والانقباض عن الناس خشية أن يعامله من لا يعرف قدره بما لا يليق به، أي: لم يغترب بعض العلماء خوفاً من أن يعاملوا في الغربة بما لا يليق بهم، أو يهانوا أو يذلوا، مع حرص بعض هؤلاء العلماء على الخمول وعدم الاختلاط الكثير بالناس، ولكنهم أبوا أن يتحولوا عن الأماكن التي يعرفون فيها؛ لأنهم ربما إذا تحولوا إلى غيرها فربما يعاملون بما فيه مذلة، وهذا من معرفة قدر النفس وصيانتها عما لا يليق بها.
وأوضح مثال على ذلك الإمام الجليل سفيان الثوري رحمه الله تعالى، فالإمام سفيان الثوري كان شديد التواضع، لكن في غير ذل ولا استصغار، ومن كلامه رحمه الله تعالى: أحب أن أكون في موضع لا أعرف ولا أستذل.
وذلك لئلا لا يعظمه الناس، لكن في نفس الوقت لا يستذل؛ لأنه إذا كان غير معروف فيمن هو بينهم ومن يعيش حولهم ومن يعيشون حوله فربما تعرض له بعض الغوغاء أو الرعاع بتصرفات فيها إهانة تذله، فخوفاً من ذلك يقول رحمه الله: أحب أن أكون في موضع لا أعرف ولا أستذل.
وقال ابن مهدي: سمعت سفيان الثوري يقول: وددت أني أخذت نعلي هذه ثم جلست حيث شئت لا يعرفني أحد.
ثم رفع رأسه وقال: بعد أن لا أستذل.
فاشترط لنفسه أن لا يستذل.
ولشدة حذره من الذلة كان يسكن بين معارفه من الناس الذين يعرفون قدره، قال رحمه الله: لولا أن أستذل لسكنت بين قوم لا يعرفونني.
فهل هذا من الكبر؟ ليس هذا من الكبر، بل هذا مما نحن بصدد بيانه، وهو معرفة قدر النفس وشرفها، والدليل على ذلك أنه اشتهر جداً بالتواضع الشديد، وقد رؤي مرة في مكة وقد كثر الناس من حوله فقال: ضاعت الأمة حين احتيج إلي.
وكان يقول: لو لم يأتني أصحاب الحديث لأتيتهم في بيوتهم.
وكان يقول: لو أني أعلم أن أحداً يطلب الحديث بنية -يعني: بإخلاص- لأتيته في بيته حتى أحدثه.
وكان لا يتصدر مجلساً، ولكنه يجلس بين عامة الناس، حتى قال في ذلك علي بن ثابت: ما رأيت سفيان في صدر مجلس قط، كان يقعد إلى جنب الحائط، ويجمع بين ركبتيه رحمه الله تعالى.
ولا يرد على قول الإمام الجليل سفيان الثوري: (لولا أن أستذل لسكنت بين قوم لا يعرفونني)، ما حكاه الحسن قال: كنت مع ابن المبارك يوماً، فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا يعني: حيث لم نعرف ولم نوقر.
فهل هذا يتعارض مع كلام سفيان؟!
و
الجواب
كلا، لا يتعارض معه؛ لأن غاية ما في خبر الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى أنه لم يعرف فعومل كسواد الناس، لا أنه ذل، والذي خشي منه الإمام سفيان الثوري هو أن يستذل أو أن يهان، أما هذا فقد عومل بسواسية مع الناس الذين كانوا حوله.
وهذا هو ما حرص عليه أويس القرني رحمه الله تعالى حين قال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: الكوفة.
قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
رواه مسلم، والغبراء هم الضعفاء والصعاليك والأخلاط الذين لا يؤبه لهم.