[تعريف الهمة]
فالهمة مأخوذة من الهم، والهم هو ما هُمَّ به من أمر ليفعل، والهمة هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول، فتكون همة عالية وهمة سافلة، وفي المصباح: الهمة بالكسر هي: أول العزم، وقد تطلق على العزم القوي، فيقال: له همة عالية.
وقيل: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، يعني: أن الهمة العالية هي عبارة عن نشدان الكمال الممكن، فالإنسان لا يرضى إلا بأعلى المراتب في كل شيء، ولا يصبو إلا إلى ما أمكنه أن يصل إليه من الكمالات في كل الأحوال، وينظر إلى كل ما دون هذا الكمال نظرة استصغار.
فإذاً: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وقيل: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
وهذا التعريف الأخير ذكره الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى، وقال في شرح معناه: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة -مثلاً- تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية.
يعني: أن صاحب الهمة العالية يصبو إلى كل ما أمكنه من الكمالات، فيأنف ويستنكف أن يكون في حالة من أحوال التقصير مادام هذا التقصير يمكن دفعه عن النفس.
والنبوة ليست كسبية، بل النبوة وهبية، يعني: أن الله سبحانه وتعالى يصطفي من رسله من يشاء، لكن يقول: لو فرضنا أن النبوة تنال بالكسب لم يجز لعالي الهمة أن يقنع بالولاية، أي: لم يجز لعالي الهمة أن يرضى بأن يكون ولياً دون أن يرقى إلى مرتبة النبوة، يقول: أو تصور أن يكون -مثلاً- خليفة لم يقتنع بإمارة، ولو صح له أن يكون ملكاً -يعني: من الملائكة- لم يصلح له أن يرضى أن يكون بشراً.
والمقصود من علو الهمة: أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في العلم والعمل.
إذاً: نشدان الكمال الممكن يدخل في باقته الوصول إلى الكمال واستصغار كلما دون ذلك.
ويقول الجرجاني في التعريفات: الهم هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر، سواءً كان هذا الهم هماً بخير أم هماً بشر.
أما الهمة فهي: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق؛ لحصول الكمال له أو لغيره.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين: والهمة: فعلة من الهم، والهم هو: مبدأ الإرادة.
أي: أن بداية الإرادة هم، ولكنه خص الهمة بنهاية الإرادة، فالهمة هي: التعبير عن نهاية وقمة وأعلى الإرادة، فأولها الهم، وآخرها وأعلاها الهمة، فالهم مبدؤها والهمة نهايتها.
يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في بعض الآثار الإلهية: قول الله تعالى: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته، قال: والعامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب.
فعوام الناس مقاييسهم أن قيمة الإنسان هي ما يحسنه، أما الخواص فإنهم يقولون: قيمة الإنسان ما يصبو إليه، وما يطمح إليه، وما يطلبه، فقيمة المرء همته ومطلبه.
وقال صاحب المنازل: الهمة: ما يملك الانبعاث للمقصود صرفاً لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها، يعني: ينبعث قلبه نحو المقصود ونحو الطلب الذي يطلبه، ويستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك؛ بحيث لا يستطيع أن يتخلص من هذا النزوع إلى طلب الكمال.
والمراد أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تبارك وتعالى طلباً صادقاً خالصاً محضاًً، فتلك هي الهمة العالية التي لا يقدر صاحبها على المهلة، ولا يستطيع أن يؤجل أو أن يرضى بما هو دون ذلك، ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه، وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود، ولا يلتفت عنها إلى ما سوى أحكامها، وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه، ما لم تعقه العوائق، وتقطعه العلائق.
والله تعالى أعلم.
وقال أيضاً: علو الهمة ألا تقف دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الفانية.
فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان؛ فإن الآفات قواطع وجواذب، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه، وإنما تجتذب من المكان السافل، فعلو همة المرء عنوان فلاحه، وسفول همته عنوان حرمانه.
انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.